قنطرة – 23 فبراير 2021/
فلسطيني قُتلت ابنته برصاص جندي إسرائيلي. وإسرائيلي تُوُفِّيَت ابنته قبل ذلك بـ10 سنوات عام 1997 بعملية انتحارية فلسطينية. أصبحا صديقين يعملان لسلام مفقود: لعله آتٍ من الناس العاديين؟ كولوم ماكان كاتب إيرلندي نسج من مصيرهما قصة مؤثرة عن الحرب والصداقة والألم والأمل. شايان رياض حاوره لموقع قنطرة.
فَقَدَ كل من الفلسطيني بسام عرامين والإسرائيلي رامي الحنان ابنته خلال الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؛ إذ توفيت سمدار في العام 1997 إثر عملية انتحارية فلسطينية، أما عبير فقد لاقت المصير نفسه بعد عشر سنوات بعيار ناري أطلقه حرس حدود إسرائيلي. وقد نسج الكاتب الإيرلندي كولوم ماكان من مصيرهما قصة مؤثرة عن الحرب والصداقة والألم والأمل، في روايته “أبيروجون” [“مُضَلَّع لا نهائي الأضلاع”] حيث تتناظر وتتقاطع الآلام.
متى سمعت لأول مرة بقصة كل من بسام ورامي؟
كولوم ماكان: سافرت إلى فلسطين وإسرائيل قبل خمس سنوات برفقة منظمتي “ناراتيف” 4 وَ “تيلوس” غير الحكوميتين، وكنا آنذاك مجموعة كبيرة من الفنانين والناشطين. صحيح أنها كانت رحلة خاطفة، إلا أننا تمكنّا من مقابلة أناس على درجات كبيرة من الاختلاف، من موسيقيين فلسطينيين وكتّاب إسرائيليين ومستوطنين وجنود وفنانين وخبراء أمنيين.
لقد كانت رحلة رائعة مع برنامج منظم ببراعة ومنوّع جدًا. وتوجهنا في الليلة ما قبل الأخيرة بالسيارة إلى بيت جالا القريبة من القدس، وهناك صعدنا درجًا مهتزًا إلى مكتب صغير، والتقينا برجلين كانا ينتظراننا، وقد عرّفا نفسيهما على أنهما رامي وبسام. لقد بَدَوَا للوهلة الأولى رجلين عاديين في مكان اعتيادي.
ومن ثم استغرق الرجلان بالحديث عن ابنتيهما سمدار وعبير اللتين فارقتا الحياة خلال الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وكان لحديثهما من التأثير درجة يشعر المرء معها كما لو أن أوكسجين الغرفة قد استنزفته أنفاس المتابعين. وقد ظننت أنهما يرويان قصتيهما للمرة الأولى، إلا أن الأمر لم يكن كذلك، حيث سبق لهما رواية ذلك مئات المرات. لقد تأثرت بشدة وتغيرت إلى الأبد.
كيف فاتحت الرجلين برغبتك في تأليف كتاب عن حياتيهما؟
كولوم ماكان: لقد أخبرتهما بذلك بكل بساطة، فلقيت الفكرة استحسانهما، فقد كانا قد اعتادا على اهتمام وسائل الإعلام بقصتيهما. ومن ثم شرحت لهما أني كاتب، وأني أرغب في كتابة رواية عنهما، فقالا إنه بإمكاني كتابة ما أريد. لم يكن واضحًا لهما تمامًا ما الذي أخطط له، إلا أنهما وثقا بي.
كان لدي في البداية خوف كبير من هذا المشروع. فأنا مواطن إيرلندي، أعيش في نيويورك، ولم أقضِ كثيرًا من الوقت في الشرق الأوسط، فكيف يمكنني إذن، بوصفي مؤلفًا، أن أفهم جوهر هذين المصيرين والأحداث في الشرق الأوسط وأن أعيد إنتاجها كما لو أني عشتها؟ لقد أردت رواية قصة يمكن لجميع القراء فهمها، حتى وإن كان القارئ لا يعرف شيئًا عن هذا الصراع على الإطلاق.
كتابة بدون إملاءات من الكاتب
ألم تخشَ أن تستولي ثقافيًا على القصة لكونك رجلًا أبيض؟
كولوم ماكان: سؤال جيد جدًا يشغلني في الآونة الأخيرة كثيرًا. فالاستيلاء الثقافي موجود بكل تأكيد، وغالبًا ما نذهب نحن الكتاب والفنانون إلى أماكن ينبغي علينا أن نبقى بعيدين عنها. إذ نمارس الفوقية على الآخرين، ونأخذ دور الوصي عليهم، ونسرق، ونستهزئ، ونستغل، ولا نمعن التفكير.
ونحن لا نعترف بالثقافات الأخرى، ولا نرى أبعد من رؤوس أنوفنا، ونربِّت على أكتاف بعضنا في بعض الأحيان استحقاقًا لشجاعة مفترضة ليست في حقيقتها إلا تبجُّحًا. وكل هذا خاطئ [بكل تأكيد]. عندما نستولي على ثقافة ما، فلا بد من أن يستحق ذلك كل نقد. وكثير من الناس على حقٍّ في انتقاد ذلك، وليس لدي أي مشكلة فيه.
وفي الوقت نفسه، يجب علينا أن نتحدث عن كيفية تقديرنا للثقافات في حال رغبنا بالتعلم منها ومشاركتها والتعمق فيها وإيلائها محور التركيز. وهذه قصة مختلفة، أو ربما جزء من القصة ذاتها، بشرط أن نتعامل مع الأمر بتواضع ودون تكبر.
فعندما لا نكون على مستوى المهمة الملقاة على عاتقنا -في وقت تطالبنا فيه الحقيقة بالكثير- سنخرج في نهاية المطاف من ذلك أكثر تعقلًا دون أن يخلو ذلك من بعض الجروح. وقد كان الأمر بالنسبة لي على هذا النحو خلال العمل على كتابي “أبيروجون” [ شكل هندسي مُضلَّع له عدد لا نهائي من الزوايا لدرجة لا يمكن تمييزه عن الدائرة]. لقد كان من الرائع أن يدعم رامي وبسام هذا الكتاب.
لقد قضيت الكثير من الوقت معهما. ركبت مع رامي على دراجته النارية، وعبرت نقاط التفتيش مشيًا على الأقدام مع بسام، وتناولت طعام العشاء مع عائلتيهما؛ لقد أخبراني بأشياء لم يعهدا بها إلى أي شخص من قبل. لقد أردت الولوج إلى عقليهما وقلبيهما ليتسنى لي معرفة سبب شجاعتهما. أكنُّ لرامي ولبسام كل تقدير، وآمل أن تتمكن روايتي من إيصال مشاعري تجاههما.
تتمحور رواية “أبيروجون” حول مقتل كل من سمدار وعبير، وكيف أثر ذلك بشدة على حياة عائلتيهما حتى يومنا هذا. الألم والفقدان قضيتان عابرتان للحدود، وفقدان طفل هو مأساة مروعة بصورة خاصة، كيف عالجت هذا الموضوع من الناحية الأدبية؟
كولوم ماكان: أنا نفسي عندي ثلاثة أطفال، ولكن، ولله الحمد، لم أتعرض لفقدان أيٍّ منهم، إلا أن الكتابة حول هذا الموضوع لوحده كانت صعبةً بصورة لا تصدق. لقد كان عليّ أن أضع نفسي في مكان رامي وبسام، وأن أشعر بالطريقة التي يتألمان بها، وبذلك توجب عليّ الوصول إلى الأماكن المظلمة في تفكيري وشعوري. لقد كان الأمر مرهقاً لي جسديًا وهزني عقليًا.
علاقة صعبة بين الحقيقة ونسج الخيال
هل تجد الكتابة عن الشخصيات أو الأحداث الحقيقية صعبة على نحو خاص؟ وكيف تتعامل بوصفك كاتبًا مع مسألة الحقيقة؟
كولوم ماكان: آه الحقيقة! لطالما كانت العلاقة بين الخيال والواقع معقدة، إلا أنها أصبحت في الوقت الحاضر أكثر صعوبة، سواء تعلق الأمر بالصدق وبالأخبار المزيفة أو بالأدب والكتب الاختصاصية. فأين يمكننا بالضبط أن نرسم حدودا بينها [ بما يمكننا من التمييز بين الصادق والمزيف أو بين ما ينتمي للأدب أو لكتب الاختصاص]؟
وسبق لي في مقابلات أخرى أن وصفت الحقائق بالمرتزقة، إذ يمكن للمرء التلاعب بها وتوظيفها لصالحه؛ أما الحقيقة الصافية فتكمن في قلوبنا، وقلب الإنسان مكان فوضوي يتغير باستمرار. أحب المزج بين الواقع ومخيلتي متمنيًا أن يسمح لي ذلك بخلق شيء صادق.
يقع كتابك على 1001 فصل، بما يلمح إلى حكايات ألف ليلة وليلة. لماذا قررت هيكلة الكتاب على هذا النحو؟
كولوم ماكان: كنت قد فكرت بالأصل بتقسيم الكتاب إلى 50 فصلا، ومن ثم فكرت بجعله 100، ولكن بعد عام وحين وصلت عملية الكتابة إلى منتصفها لاحظت أن رامي وبسام يرويان قصتَيْ ابنتيهما لإبقائهما على قيد الحياة، كما فعلت شهرزاد. ثم أدركت فجأة أن عليّ تقسيم الكتاب إلى ألف فصل وفصل واحد. ثم قررت الكتابة في اتجاهين، وترقيم الفصول من الفصل رقم 1 حتى الفصل رقم 500 ومن ثم العد عكسيًا عودةً إلى الفصل رقم 1. وأنا على كل حال لست متخصصاً بالرياضيات، وكان الأمر بالنسبة لي كما لو أنه لحنٌ موسيقي.
ذكرت في كتابك أن كمية كبيرة من الأعلام الإسرائيلية قد بيعت في إيرلندا الشمالية في الثمانينيات، إلى أي مدى طبع الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني طفولتك بطابعه؟
كولوم ماكان: مررت بالعديد من نقاط التفتيش [خلال تواجدي] في فلسطين. ولكن ليكن في معلومك أنه قد تم توقيفي في العديد من نقاط التفتيش في إيرلندا الشمالية عندما كنت طفلاً. لقد كانت هذه المرحلة من حياتي في إيرلندا الشمالية مهمة بالنسبة لي، كما كانت متابعة عملية السلام الإيرلندية حتى نهايتها في العام 1998 مفيدة جدًا لفهمي لما يحدث في الشرق الأوسط، إذ مكنني ذلك من التعرف على الأشكال المختلفة للحزن، وعلى قوة اللغة بوصفها سلاحًا، كما مكنني ذلك أيضًا من رؤية الأكاذيب ونصف الأكاذيب، وبالطبع الألم من جميع الجوانب.
ذكرت في كتابك أن “السلام أمر لا مفر منه من الناحية الأخلاقية، ولا يمكن لكلا الجانبين منع تحققه.” [واليوم نرى] رامي وبسام كصديقين يعملان من أجل السلام. هل لديك ما يبعث على الأمل في خضم هذا الصراع؟
كولوم ماكان: كي أكون صادقاً معك، لست متفائلا في الوقت الحاضر كثيرًا. ولكن السّلام سيأتي كما لو أنه مفاجأة، من القاعدة، من الناس العاديين. سيحدث ذلك بالصدفة.