نيويورك تايمز و”الربيع العربي”

عمران سلمان – الحرة – 26 فبراير 2021/

يقول عنوان تقرير لصحيفة نيويورك تايمز صدر في 14 فبراير 2021 إن “الربيع العربي فشل لكن طعم الديمقراطية الذي ذاقته الشعوب في ظله ما زال يثير شهيتها للتغيير!”.

الواقع أن ذلك هو مجرد اشتباه، فما ذاقته الشعوب العربية لم يكن هو طعم الديمقراطية، وإنما هو طعم الفوضى وانفلاش قبضة الأمن والاحتكام إلى الغرائز البدائية. وهو طعم لا شك أنه يثير الشهية لأن الطبيعة البشرية في أبسط صورها تميل إلى ذلك – إلى التحرر من كل قيود.

هناك جنوح في العالم الغربي إلى تفسير كل تحرك سياسي شعبي في الشرق الأوسط على أنه يهدف إلى تحقيق الديمقراطية، وكل جماعة ترفع شعار الديمقراطية والحرية (أو تتخذ منهما مسمى لها) هي تسعى فعلا إلى تطبيق ذلك. وهذا مجرد وهم وإسقاط لما يريده أو يعتقده هؤلاء الجانحون.

الواقع أن الديمقراطية بعيدة التحقق في العالم العربي، لأنه لا توجد لها أي أرضية أو مقومات دينية وثقافية واجتماعية وسياسية.

الصراعات المهيمنة اليوم هي صراعات في الغالب ليس ميدانها الديمقراطية، وإنما الهوية والطائفة والقبيلة والجهة وبعض المصالح الفئوية الأخرى.

فالناس لا تريد الحرية لأنها تفتقدها، إذ هي أصلا مقيدة دينيا واجتماعيا، أكثر بكثير من القيود السياسية. ما تريده الناس هو تأمين لقمة العيش أولا، وتاليا الاعتراف بهويتها سواء الدينية أو القومية أو الاجتماعية أو القبلية.

أما مسألة الديمقراطية فالحقيقة أنه لا أحد يكترث لها في العالم العربي. بل لا أحد يفهم ماذا تعني في نهاية المطاف.

فإذا تحدثنا عن صندوق الانتخاب، فهو لن يزيد عن وسيلة لتأكيد تلك المطالب، ولذلك فهو لا يعكس سوى الانتماء الديني أو القومي أو الاجتماعي أو القبلي أو المناطقي، وإذا تحدثنا عن البرلمان الذي ينتج عن هذه الانتخابات فهو الآخر يعكس هذه المفاهيم.

وبطبيعة الحال يرى الجانحون، وهم محقون، بأن النظام الديمقراطي لا يعني فقط صناديق الاقتراع وفوز الأغلبية، وإنما يعني جملة مبادئ تشمل الفصل بين السلطات والتعددية والتسامح وحماية حقوق الأقلية وسلطة القانون والحريات وحقوق الإنسان… إلخ.

وفي العالم العربي لا وجود لهذه المبادئ. فرغم أن الدساتير تنص مثلا على الفصل بين السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، لكن الجميع يعلم ويشاهد بأن هذا الأمر لا يحدث على ذلك النحو. لأن الحكومات، وهي حصيلة الوعي الطبيعي والجمعي للمجتمع، لا يمكن أن تلتزم بهذا النوع من الفصل. فهي لا بد أن تمارس الهيمنة الطبيعية على البرلمان وعلى السلطة القضائية، كلما استطاعت إلى ذلك سبيلا.

الناس أنفسهم لا يمكنهم أن يستوعبوا وجود مثل هذا الفصل. هم يتوقعون بأن “رجلهم” في البرلمان أو السلطة من المفترض أنه يستطيع أن يمرر لهم بعض الخدمات ويمارس الضغوط هنا وهناك كي يتمكن من تحقيق بعض المصالح.

وهو بدوره لا بد أن يسعى في هذا الأمر، كي يحقق ثقة جماعته فيه ويأتي ضمن توقعات أفرادها.

من باب الدعابة فقط، وربما الجد أيضا، أقول إن ترامب تقمص هذه الشخصية العالمثالثية. فقد كان يحلم بأن يظل رئيسا إلى الأبد في أميركا، وسعى للتدخل في جميع السلطات، وانتقد القضاء، وحاول أن يرهب مسؤولي الولايات، كي يؤمنوا له الفوز في الانتخابات، وعندما فشلت جهوده، أمر أنصاره بمهاجمة مبنى الكونغرس (البرلمان) كي يوقفوا عملية التصديق على نتائج الانتخابات.

طبعا النظام الديمقراطي في أميركا قوي إلى الدرجة أنه لم يفشل جهود ترامب فحسب، وإنما سعى إلى معاقبته. وهذا النظام يملك من الوسائل التي تحول دون ولادة أية ديكتاتورية مهما كان شكلها. مع أن الكثيرين هنا يعتقدون، وهم محقون أيضا، بأنه لا توجد أي نوع من الضمانات، إذ لا بد من اليقظة والتأهب الدائمين لحماية الديمقراطية من الداخل كما من الخارج.

لكن ما فعله ترامب هو النسخة الطبيعية لما يحدث في البلدان العربية، مع أن الحاكم أو المسؤول هناك لا يحتاج إلى القيام بكل ذلك، فلديه من الوسائل التي تؤمن له تحقيق نفس النتائج بأقل قدر من الخسائر. والناس أيضا يمارسون الشيء نفسه ضمن مستواهم وفي نطاق قدرتهم وحيثما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

والخلاصة هي أن الحديث عن الديمقراطية في المنطقة العربية الذي جاء في تقرير نيويورك تايمز، هو حديث يجمع إلى الرغائبية، استباق الأوان، فثمة صراعات مجتمعية ودينية وطائفية ينبغي أن تحسم أولا كي تسمح للإنسان في هذه المنطقة بالتحرر من القيود التي تتحكم في جميع قراراته واختياراته.

حينما يصبح الإنسان قادرا على تحقيق فردانيته والشعور بأهميته كفرد، بصرف النظر عن الانتماءات الأخرى، وحين يصبح قادرا على ممارسة حرية الاختيار وتحمل مسؤولية هذا الاختيار، حينها يصبح للديمقراطية معنى في العالم العربي. وحينها يصبح هناك طعم للديمقراطية يمكن أن يتذوقه الإنسان العربي.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *