بقلم/ عمران سلمان – قناة الحرة – 11 يونيو 2021/
يحكى أنه في أواخر زمن العبودية في الولايات المتحدة وعندما بدأ تحرير العبيد بصورة جماعية كان هناك من بين العبيد من رفض مغادرة منزل سيده السابق، وفضل البقاء فيه على الحرية.
وكان منطقه بسيطا وهو أنه عاش طوال حياته يعتمد على الغير في تدبير أمور معيشته، بينما الآن سوف يتعين عليه أن يعتمد على نفسه في كل شيء من توفير المسكن والطعام وما شابه ذلك، وهو ما لا طاقة له به أو عليه.
ما فعله هؤلاء العبيد ينطبق بصورة أو بأخرى على العديد من المسلمين اليوم. فهناك من هؤلاء من يرفض التفسيرات الإيجابية والخيّرة والتي تحث على المحبة والسلام في الدين ويصر على التفسيرات التي تحرض على الكراهية والعداوة للآخر المختلف عنهم. فهم قد اعتادوا على ذلك وألفوه.
وحتى عندما تتاح لهم الفرصة في أن تكون لهم تصوراتهم الخاصة بشأن الدين الذي يعتقدون فيه، فإنهم يرفضون ذلك ويصرون على اتباع ما جاء في كتب الأموات والغابرين من تفسيرات وأقوال ما أنزل الله بها من سلطان.
تقول لهم إن التفسيرات الدينية هي عمل بشري قام به أشخاص وربما هم فسروا ذلك ضمن الظروف التي عاشوا فيها وضمن مستوى فهمهم وما اعتادوا عليه في بيئاتهم.
فيردون بأن هؤلاء هم السلف الصالح وعلينا اتباعهم، فهم أعرف وأعلم وأقدر منا على الفهم والتفسير، وما نحن سوى أناس عاديون لا قدرة ولا طاقة ولا سلطة لنا على فهم النصوص ومعرفة مضامينها!
بل أنهم يذهبون أبعد من ذلك في تقديس هؤلاء الأشخاص وإضفاء الحصانة عليهم من النقد ويغضبون بصورة هستيرية كلما تم انتقاد واحد من هؤلاء، كما يحدث اليوم مع الانتقادات الموجهة إلى “صحيح البخاري” أو غيره من كتب التراث الديني.
وهم لا يكتفون بذلك، وإنما يتبنون هذه التفسيرات في كل مجال من مجالات الحياة المعاصرة.
وكلما خطى أحد خطوة نحو التفاهم وإقامة الجسور بين المسلمين والمسيحيين واليهود أشهروا عليه سيف “لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء … “.
وكلما حاول أحد أن يمد يد السلام والتفاهم مع الآخرين ثاروا عليه مذكرينه “ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم.. “.
في كل موقف وفي كل عمل تحضر التفاسير الأكثر تطرفا وشعوذة، ويذهب المنطق والحديث العقلاني أدراج الريح. بل أن بعض هؤلاء يظهر من الغفلة والازدواجية ما لا حدود له. فهو يعتقد في نفسه بأنه من أكثر أهل الأرض مسالمة ووداعة وتسامحا تجاه الآخر المختلف عنه، بينما على أرض الواقع هو يتصرف عكس ذلك تماما.
أنظر على سبيل المثال كيف تعاملت أمانة العاصمة الأردنية عمان مع عبارات من الإنجيل وضعتها جمعية دار الكتاب المقدس على يافطات تهنئة بعيد استقلال المملكة (كما تفعل كل عام)، وكيف أزالتها متذرعة بأنها “تسيء للأخلاق العامة السائدة في المجتمع”!
بل أنظر كيف رد اللواء تامر الشهاوى عضو مجلس النواب ولجنه الدفاع والأمن القومي المصري السابق على الإعلامي إبراهيم عيسى الذي تساءل: ماذا يضير المسلم أو المسيحي في أن يكون بمصر دور عبادة للبهائيين؟؟
فكان رده: “أما السماح بترك الساحة للتعبد لغير الديانات والشرائع السماوية بداعي حرية التعبد فهو طرح في تقديري غير سوي لأنه يخرجنا عن الإطار الذي أمرنا به الله عز وجل، بل وقد يعيد المجتمع إلى عصور ظلامية من الجهل الديني فضلا عن تمزيق العقائد المجتمعية، لأنه وفق منطقك إن سمحت بدور عبادة للبهائيين فما الذي يمنع أيضاً من دور عبادة أخرى للبوذية والسيخ والهندوس والديانات الصينية القديمة والشيعة وعشرات العقائد الأخرى؟”. (هذا النص منشور على صفحته على الفيسبوك وقد قمت بتصحيح الأخطاء الإملائية فيه).
وتتساءل ما الذي يمنع الإنسان من أن يختار لنفسه أفضل ما في الدين ويترك أسوء ما فيه؟ وأقول أفضل وأسوأ هنا بالإشارة إلى ما يتناسب مع قيم العصر الذي نعيش فيه والذي يجد ترجمته في شرعة حقوق الإنسان.
في السنوات الأولى لوجودي في أميركا تعرفت على إحدى الكنائس في المنطقة والتي تنتمي إلى Unitarian Universalist Association.
هذه الكنيسة تعتبر الأكثر ليبرالية من الناحية الاجتماعية والسياسية، هي ليست كبيرة من ناحية العدد لكنها موجودة منذ تأسيس أميركا تقريبا ومقرها الأم يوجد في بوسطن بولاية ماساتشوستس ولها فروع في معظم الولايات.
ما يجمع هذه الكنيسة بغيرها من الكنائس هو فقط الاسم، أي كونها كنيسة لكن في جوهرها هي ليست كذلك، فمعظم أفرادها إما ملحدين أو لا أدريين أو مسيحيين حاليين أو سابقين أو أتباع أديان أخرى أو من تركوا هذه الأديان.. الخ.
باختصار هي تضم جميع البشر على اختلاف انتماءاتهم وتعريفاتهم. وبالطبع هي لا تعلّم الإنجيل أو تطبق الطقوس المسيحية المعروفة. فلديها كتبها الخاصة بها ومعلموها، وتكتفي فقط بما هو رمزي وشكلي في المسيحية.
أثار ذلك استغرابي بطبيعة الحال وقد سألتهم لماذا يطلقون عليها إذن اسم كنيسة؟ فكان الجواب هو أن ذلك جزء من تاريخهم، فقد كانوا طائفة من الطوائف المسيحية القديمة المنتشرة في إنجلترا وبولندا وترانسلفانيا (رومانيا)، تمردت على الكنيسة الرسمية وتعرضت للاضطهاد الشديد بسبب ذلك، ثم تطورت مع الوقت في الاتجاه الإنساني، لكنهم أبقوا على الكنيسة تعبيرا عن تلك الصلة وأيضا كمكان لخدمة المجتمع المحلي.
تتبنى هذه الكنيسة سبعة مبادئ ترتكز على التعاليم الإنسانية لأديان العالم وتسعى لتطبيقها في الواقع، وهي مستمدة من الكتاب المقدس والعلوم والطبيعة والفلسفة والخبرة الشخصية والتقاليد القديمة.
وهذه المبادئ هي: “القيمة والكرامة متأصلة في كل شخص؛ العدل والإنصاف والرحمة في العلاقات الإنسانية؛ قبول بعضنا بعضاً والتشجيع على النمو الروحي في كنائسنا؛ البحث الحر والمسؤول عن الحقيقة والمعنى؛ حق الضمير واستخدام العملية الديمقراطية داخل كنائسنا وفي المجتمع ككل؛ هدف المجتمع العالمي هو السلام والحرية والعدالة للجميع؛ احترام الشبكة المترابطة لكل الوجود الذي نحن جزء منه”.
تحدثت عن هذه الكنيسة من باب الاستفسار لجاري في الحي وهو مسيحي إنجيلي متدين، وكذلك إلى صديقي وهو قس أردني انجيلي لديه كنيسة في كاليفورنيا (القس إميل حداد وقد توفي قبل أعوام رحمه الله) فاستنكرا الأمر، بل وصفاها بشتى النعوت السلبية التي يمكن تخيلها، وهو نفس الأمر الذي يمكن توقعه من أي مسلم متدين حين تحدثه عن جماعة علمانية مثلا.
ما أريد قوله هنا باختصار هو أن الإنسان، سواء كان متدينا أو غير ذلك، لديه دائما الحرية (نظريا على الأقل) لاختيار ما يرتقي به إلى أعلى بدلا من النزول نحو الأسفل.
المشكلة دائما هي أن معظم الناس يختارون الانحدار بدلا من الصعود بإنسانيتهم. ربما لأن ذلك هو الطريق الأسهل حيث الجاذبية تكون في صفهم. أقول ربما لأنه ليست لدي إجابة محددة على هذا السؤال.
explanation