عمران سلمان – الحرة – 15 يناير 2021/
عام 2007 أو شيء قريب من هذا وكان اليوتيوب قد ظهر للتو، كنت أبحث مع معهد أبحاث وإعلام الشرق الأوسط في واشنطن الذي كان يساعدني في مشروعي آفاق للإصلاح في المنطقة العربية، عن إنشاء حساب على اليوتيوب. لم أكن وقتها أدرك قوة وأهمية هذا الموقع الذي يعني بنشر الفيديو على الإنترنت. كان الأمر أشبه باختراع جديد يمكن الاستفادة منه، لكن إلى أي مدى؟
هوامش الحرية
اليوم يتضح أن يوتيوب لم يكن مجرد اختراع عبقري فحسب، وإنما اختراع غير مجرى حياتنا إلى الأبد. فالقنوات على هذا الموقع، اخترقت جميع الحجب وباتت تشكل رافدا أساسيا في تطوير الفكر والثقافة وبالطبع الإصلاح الديني على نطاق واسع، وخاصة في منطقتنا العربية.
وأقول منطقتنا لأن الغرب ليس جديدا على المسائل التي تتناول الأديان أو تتخذ منها موقفا نقديا، وربما كان الأمر مشابها وإن بدرجات مختلفة في مناطق أخرى من العالم. أما في منطقتنا العربية فإن نقد الأديان أو منح المجال للملحدين والربوبيين واللاأدريين وغيرهم ممن لديهم موقفا مخالفا للمؤسسة الدينية يعتبر شيئا جديدا تماما.
فعندما صدر كتاب نقد الفكر الديني لصادق جلال العظم عام 1969، وقد أعيد طبعه بعد ذلك عشرات المرات، أثار ضجة كبرى وتعرض العظم بسببه إلى المحاكمة والملاحقات القانونية في بيروت آنذاك، بحجة “الحض على النزاع بين مختلف طوائف الأمة وتحقير الأديان”.. وحتى في السنوات التي تلت ذلك كان يعتبر اقتناء هذا الكتاب مسألة صعبة بالنظر إلى ما احتواه وقتها من جرأة في الحديث عن الدين.
حين يعود الإنسان إلى هذا الكتاب يجده خجولا ومتواضعا وربما تبسيطيا بالنظر إلى ما يبث اليوم عبر اليوتيوب من آراء جريئة وناقدة.
جمهرة من اليوتيوبرز
اليوم توجد جمهرة واسعة من “اليوتيوبرز” الذين لا يجاهرون بآرائهم فقط فيما يتعلق بالإسلام، وإنما ينقلون تجاربهم وتجارب غيرهم مع الدين إلى الجمهور، والأمر لا يقتصر على بلد معين، بل يشمل تقريبا معظم الدول العربية، وتتنوع التجارب والآراء على النحو الذي يتيح مساحة واسعة للنقاش.
من هؤلاء نذكر حامد عبد الصمد ومحمد المسيّح وأحمد سامي وسراج الحيان وارنست وليام وغيرهم كثيرون.. هؤلاء جميعهم يدينون، كما ندين جميعا، لليوتيوب لأنه مكنهم ومكننا من أن نقرأ ونسمع ونشاهد صور حرية التعبير والضمير بمختلف أشكالها، من دون خوف أو رهبة، فيما تقف المؤسسة الدينية عاجزة، ليس فحسب عن الرد، وإنما عن الانتقام أو معاقبة هؤلاء على جهرهم بآرائهم وأفكارهم التي لست أشك بأن الكثيرين في السابق كانت تراودهم نفس الأفكار، لكن سلطة المؤسسة الدينية ومن ورائها سلطة الحاكم كانت تقف بالمرصاد لكل رأي أو فكر مخالف لما هو سائد.
وفي عالم اليوم لا يمكن جلد أو صلب أو تقطيع أطراف أي من هؤلاء، كما كانت تفعل المؤسسة الدينية ومن ورائها السلطة السياسية في السابق مع المخالفين أو المجاهرين بآرائهم النقدية للدين، أو من يتهمون اليوم بازدراء الأديان أو الطعن في العقيدة وما شابه من تهم تنتمي إلى محاكم التفتيش في القرون الوسطى. لقد شلت هذه الأيدي تماما، وأقصى ما تستطيع القيام به هو التشويش والإزعاج. ولا بأس في ذلك.
الزبد يذهب جفاء
نحن إذن أمام ثورة وفرها اليوتيوب (وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي)، ولست أبالغ إن قلت إن الأجيال الجديدة في المنطقة العربية سوف تخرج سريعا من عباءة القيود التي وضعتها المؤسسة الدينية وكبلت أجيالا كثيرة من البشر.
ما سوف يميز الأجيال الجديدة ليس بالضرورة هو الموقف النقدي من الأديان، وإن كان هذا من ضمن النتائج، ولكن القدرة على الاختيار والحرية في البحث والسعي نحو الإجابات. فرجل الدين لم يعد يمتلك أية إجابة مقنعة على المسائل التي يطرحها عصرنا، وقد كان وباء كورونا وتوجه الناس للأطباء والعلماء بحثا عن إجابات أوضح دليل على ذلك، وما تفعله التكنولوجيا الحديثة سوف يباعد بين الجيل الجديد والمؤسسة الدينية، بصورة بطيئة ولكن مضطردة.
أعلم بأن الأمر لن يكو سهلا، فعقلية داعش وأفكار داعش وممارسات داعش لا تزال مغروسة بقوة في المنطقة العربية، لكن المهم هو القدرة على وضع تلك الأفكار وتلك العقلية وتلك الممارسات على طاولة البحث والتشريح، لفهم جذورها ومنطلقاتها الدينية والسياسية، من دون خوف أو قيود، وهو الأمر الكفيل بإظهارها على حقيقتها.
فمشكلة الإنسان لم تكن يوما مع الأفكار ولكن مع عدم القدرة على محاكمة هذه الأفكار وإثارة النقاش حولها واستخلاص الآراء بشأنها. إن إتاحة المجال والحرية للإنسان كي يخضع كافة المسائل التي يفكر فيها للنقاش والتعبير الحر هو الأمر الحاسم والجوهري في تطور البشرية، والمسائل الدينية هي في صلب هذ المسائل.
لقد ولى الزمن الذي يحتكر فيه رجل الدين رؤيته أو تفسيره للرواية الدينية والأحداث المرتبطة بها، تحت زعم أنه وحده المختص بذلك. هذا الاستعلاء وهذا الاستبداد يتعرضان اليوم إلى الهجوم والنقد من كل جانب.. وهو نقد متاح للجميع ومن دون استثناء. ذاك أن ما يبقى في الأرض هو الذي ينفع الناس أما الزبد فيذهب جفاء.