الزعيم بورقيبة والقضية الفلسطينية

عمران سلمان – الحرة – 25 ديسمبر 2020/

القول بأن العرب لم يقدموا الكثير لدعم القضية الفلسطينية، ليس أمرا دقيقا. صحيح أن المساهمات اختلفت من دولة عربية لأخرى، واستنادا لحسابات مختلفة، لكن الصحيح أيضا أن القيادات الفلسطينية لم تملك ما يكفي من الحكمة التي تجعلها تميز ما بين الغث والسمين في المواقف العربية. المؤسف أنها كانت دائما تلتقط الأول وتفرط في الثاني بحماس لا تحسد عليه.


خطاب تاريخي
 

في الثالث من مارس عام 1965 زار الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة، القدس وأريحا وتفقد مخيمات اللاجئين فيها، والتي كانت وقتها تحت السيادة الأردنية، وألقى خطابه الشهير الذي نقتطف منه الجزء التالي: 
 “ما كنا لننجح في تونس، خلال بضع سنوات، لولا أننا تخلينا عن سياسة (الكل أو لا شيء)، وقبلنا كل خطوة، تقربنا من الهدف، أمّا هنا فقد أبى العرب الحل المنقوص، ورفضوا التقسيم وما جاء به الكتاب الأبيض. ثم أصابهم الندم، وأخذوا يرددون: ليتنا قبِلنا ذلك الحل، إذاً لكنا في حالة أفضل من التي نحن عليها.
ولو رفضنا في تونس، عام 1954، الحكم الذاتي، باعتباره حلاً منقوصاً، لبقيت البلاد التونسية، إلى يومنا هذا، تحت الحكم الفرنسي المباشر، ولظلت مستعمرة، تحكمها باريس. هذا ما أحببت أن أقوله لكم في هذه الزيارة، التي سيتذكرها، دائماً، هذا الرجل المتواضع أخوكم الحبيب بورقيبة. وهذه هي نصيحتي، التي أقدمها لكم ولكل العرب، حتى تضعوا في الميزان، لا العاطفة والحماس فقط، بل كذلك جميع معطيات القضية. وهكذا نصل إلى الهدف، ولا نبقى سبع عشرة سنة أخرى، أو عشرين سنة، نردد: (الوطن السليب… الوطن السليب)، دون جدوى”.

ردود الفعل

بالطبع وكما يحدث اليوم أيضا فقد انهالت على بورقيبة وعلى تونس حملات الإدانة والشجب والاستنكار من كل مكان في العالم العربي. ولعل قائل يقول: هذا الفيلم ليس جديدا بل بات مألوفا لدى الكثيرين منا”.
فقد أصدرت منظمة التحرير الفلسطينية بياناً بتاريخ 23 أبريل 1965، شجبت فيه تصريحات الرئيس بورقيبة، كما دعا الأمين العام للجامعة العربية أحمد الشقيري مجلس الجامعة لدورة استثنائية، لإقرار فصل تونس من الجامعة، ومجلس الدفاع المشترك، وجميع الهيئات واللجان المتفرعة عنها. 
وعقد المجلس الوطني الفلسطيني دور انعقاده الثاني في القاهرة، خلال الفترة من 31 مايو حتى 4 يونيو 1965، بحضور الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وأعلن أن تصريحات الحبيب بورقيبة خيانة عظمى للقضية الفلسطينية.
وفى 27 أبريل 1965، ناقش مجلس الأمة المصري تصريحات بورقيبة، وطالب عدد كبير من الأعضاء بطرد السفير العربي من تونس. وفى 28 أبريل، خرجت تظاهرات في القاهرة، استنكاراً لتصريحات الرئيس بورقيبة، وحاصرت سفارة تونس وحاولت إحراق منزل السفير التونسي. 
وفي العراق قال الدكتور فؤاد الركابي، السكرتير المساعد للاتحاد الاشتراكي العربي “إن هذه التصريحات من الطعنات التي وجهت، حتى الآن، إلى القضية الفلسطينية..” وأعلن رئيس الحكومة العراقية طاهر يحيى، “أن شعب العراق لا يمكن أن يقبل أي مساومة أو حلول وسط للمشكلة الفلسطينية”.
أما في سوريا فقد خرجت في السادس عشر من مارس 1965، تظاهرات كبرى صاخبة في دمشق، تستنكر تصريحات بورقيبة، وأصدر كميل شمعون، رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق، بياناً اتهم بورقيبة بالجهل ببعض نواحي كارثة فلسطين.

نصيحة صادقة

طبعا لم تقتصر ردود الفعل هذه فقط على البلدان المذكورة، ولكن لضيق المساحة هنا لم أشأ أن أتوسع في عرضها، بيد أن الرسالة واضحة، وهي أن الفلسطينيين والدول العربية فوتت في تلك المرحلة نصيحة نادرة من شخصية حكيمة وشجاعة قررت، رغم معرفتها التامة بالعواقب وعدم النضج الذي يسود المنطقة العربية، أن تغامر وتعلن على الملأ رأيها في الحل الواقعي والعملي للقضية الفلسطينية.
وقد كان بورقيبة صادقا في نصيحته التي كانت صادرة عن محبة للفلسطينيين وحزن على ما آل إليهم وضعهم. ولهذا لم يتردد، رغم كل ما جرى، في دعوة القيادة الفلسطينية إلى تونس بعد خروجها من لبنان إثر الحصار الإسرائيلي على بيروت العام 82. وهو نفسه الذي استضاف قيادة فتح وعلى رأسها الزعيم الراحل ياسر عرفات وقدم لهم من تونس دعما وإطارا دفع لاعتراف الولايات المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية وأجرت معها حوارا مباشرا في العاصمة التونسية.


 القرار بيد الفلسطينيين

اليوم وبعد 55 عاما، على خطاب الزعيم بورقيبة، لا يتأسف الكثير من العرب على عدم الأخذ بنصيحته، بل أنهم يمعنون السير في الاتجاه الذي حذر منه، اعتقادا منهم بأن النتيجة سوف تأتي مختلفة.
وقد نفهم أن يأتي ذلك من بعض “المثقفين” أو “الناشطين” الذي تقطعت بهم السبل، وقد نفهمه من جماعات “الإسلام السياسي” بمختلف طوائفها، والتي لا تنتعش ويطيب لها المقام سوى في الخرائب والبيوت المدمرة، ولكن هل يعقل أن بعض الحكومات العربية لا تزال تغذي الوهم لشعوبها وللفلسطينيين بشأن القضية الفلسطينية؟
هل يعقل أنها عاجزة عن أن تقدم لهم نصيحة حقيقية مثل تلك التي قدمها الزعيم التونسي، وفق قراءتها للواقع وتقديرها لما يجري في المنطقة والعالم؟
قد يبدو الأمر محيرا بالفعل، وقد لا يعرف الإنسان أسباب هذه الحكومات، ولكن ما هو مؤكد هو أن القرار يظل في أيدي الفلسطينيين الذين يفترض أنهم عرفوا وخبروا من تجاربهم الخاصة والمريرة، ما يتوجب عليهم فعله.. أو هكذا نأمل.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *