عمران سلمان – الحرة – 11 ديسمبر 2020/
كثيرون وصفوا العام الحالي بأنه من أصعب الأعوام، وخاصة بسبب ما جلبه وباء كورونا على البشرية من خسائر في الأرواح وفي الاقتصادات والعلاقات الاجتماعية. لكن هذا العام حمل معه أيضا أخبارا طيبة، وعلى رأسها تحقيق السلام بين الدول العربية وإسرائيل.
الاستثمار في السلام
فقد انضم المغرب يوم أمس إلى كل من الإمارات والبحرين والسودان، وقبلهم مصر والأردن، في إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل، وهي خطوة تقربنا أكثر نحو الشرق الأوسط الجديد، الذي يقوم على أنقاض العداوات والأيديولوجيات القديمة ويفتح المجال نحو مستقبل أفضل من التفاهم والحوار والتعاون الاقتصادي والثقافي ما بين شعوب المنطقة.
ولست أشك في أن المزيد من الدول العربية سوف تنخرط في هذ المسعى خلال الأيام والأشهر القادمة. قد لا يحدث ذلك سريعا أو بالسرعة المتوخاة، لكنه سوف يحدث في الأخير، لأن الاستثمار في السلام يظل هو الأجدى والأفضل عائدا، مهما بلغت إغراءات الحروب والعداء والنزاعات. وما نشهده اليوم هو مجرد بداية لشرق أوسط مختلف، سيتبلور تدريجيا مع الوقت ومع ترسخ علاقات السلام وظهور ديناميكيات جديدة في المنطقة تجعل من الحرب والعداء أكثر كلفة إلى حد بعيد وأقل إغراء بما لا يقاس.
استيعاب إسرائيل عربيا
ضمن هذا الشرق الأوسط الجديد فإن الدول العربية تكون في الواقع قد استوعبت إسرائيل ضمن المنطقة، وهذا يعتبر تحولا تاريخيا، حيث أنه يعيد من جديد المسألة اليهودية إلى الشرق، موطنها الأصلي.
وكان لافتا أن الحاخام اليهودي “إيلي أبادي” الذي عين حديثا ليرأس الجالية اليهودية في الإمارات، قد أشار إلى ذلك ضمنا حين قال إن الإمارات “ستصبح الملاذ الآمن الجديد لليهود والشعوب المضطهدة بالعالم”، مضيفاً أن “معاداة السامية في أوروبا والولايات المتحدة ستدفع اليهود، لاسيما إذا كانوا من أصول عربية، إلى اختيار الإمارات مكاناً للعيش والاستقرار”.
هذا يعني أن اليهود يشعرون بأن مكانهم الطبيعي هو في الشرق الأوسط وأنهم ينتمون إلى هذه المنطقة، وأن وجودهم في الدول الغربية أملته ظروف الشتات التاريخي الذي تعرضوا له عبر السنين. لكن هذا سوف يفرض عليهم أيضا أن يجعلوا من هذه المنطقة مكانا أفضل للعيش عبر انتهاج طريق السلام وليس الحروب أو الاستثمار في العداوات.
تحول في التفكير
على الجانب الآخر لا تكمن أهمية اتفاقات السلام الجديدة بين الدول العربية وإسرائيل في المنافع الاقتصادية أو التكنولوجية فحسب، ولكنها سوف تعكس تحولا أعمق في بنية التفكير والنظر العقلي للأمور.
من دون شك فإن العلاقات مع إسرائيل سوف تخفف إلى حد كبير من الجرعة الأيديولوجية والأصوليات في المجتمعات العربية، فمادام يمكن قبول اليهود والإسرائيليين في المجال العربي، فلماذا لا يمكن قبول اتباع الطوائف والأديان الأخرى؟
كما أن ذلك سوف يقلص مساحة الأرض التي يقف عليها أصحاب الحلول النهائية -الدينية والأيديولوجية – لمشاكل المنطقة، سواء تعلق الأمر بالشكل السياسي للصراع مع إسرائيل، أو بالمنظور الديني الذي يري هذا الصراع، بوصفه أزليا ممتدا إلى يوم القيامة! أو بالعلاقة بين المسلمين وأتباع الأديان الأخرى، والتي تهيمن عليها حاليا التفسيرات الإقصائية المفعمة بالكراهية ضد الآخر، أو تلك التي تنتقص من شأنه وتحط من إنسانيته وتبيح قتله. هذه التفسيرات سوف تتراجع أهميتها وقدرتها على التأثير، إلى أن يحين الوقت لدفنها مجددا في بطون الكتب وغياهب التاريخ.
الإسرائيليون يتغيرون أيضا
وإذا كان العرب يتغيرون فإن الإسرائيليين سوف يتغيرون هم أيضا. وحتى الآن كانت العقدة الأمنية والعسكرية هي المسيطرة على جميع نشاطات إسرائيل والإسرائيليين. وكانوا يقولون، عن حق، إنه لو هزمت إسرائيل في أية حرب فهذا يعني نهاية وجودها كدولة ويعني تصفية لشعبها اليهودي. وأن العرب لن يتورعوا عن ارتكاب هولوكوست آخر ضد اليهود، بل سيكون أشد من الهولوكوست الألماني وأدهى. لأن هذا الأخير كانت دوافعه عنصرية قومية، بينما الثاني دوافعه عنصرية قومية مضافا إليها عنصرية دينية.
وكانوا يقولون أيضا: أنظروا كيف يتصارع المسلمون السنة والشيعة حتى أكل بعضهم بعضا، فلماذا سوف يوفر هؤلاء اليهود؟ أو أنظروا كيف عاملت داعش المسيحيين وأتباع الديانة الإيزيدية، فلماذا سوف تختلف معاملتهم لليهود لو استطاعوا إلى ذلك سبيلا؟
كان هذا هو المنطق الذي يحرك سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين والعرب عموما.
لكن إذا انتهى هذا الهاجس، وترسخت بدلا منه علاقات السلام مع العرب، فلن تعود إسرائيل أسيرة البحث عن حماية نفسها أو وجودها، بل سيكون هاجسها هو كيفية تحقيق الاندماج الأفضل في المنطقة والعمل مع شعوبها على تحقيق الرخاء والازدهار. وأتصور أن ذلك سوف ينعكس إيجابا على علاقة الإسرائيليين مع الفلسطينيين أيضا الذين يشعرون اليوم بأن الدول العربية تركتهم وحيدين في الميدان، وهذا ليس صحيحا، فهم وقضيتهم سيكونان من بين المستفيدين مما يجري حاليا. لأنه قد يخلق لأول مرة أيضا معسكر سلام حقيقي بين الفلسطينيين، لا تثقل ظهره الأيديولوجيا والحمولات الدينية.