حرب فرنسا على جماعات الإسلام السياسي

عمران سلمان – الحرة – 6 نوفمبر 2020/

موضوع الرسوم الكاريكاتورية، إذا شئنا التشبيه، هو ليس أكثر من صاعق تفجير، لما يجري في فرنسا وفي أوروبا عموما، لكنه بالتأكيد ليس جوهر المشكلة أو الأزمة. إن عملية دفع تلك الرسوم إلى صدارة المشهد هي فقط محاولة للهروب من مواجهة التحدي الرئيسي المتمثل في حل الإشكال القائم بين قيم الدولة العلمانية الأوروبية الحديثة وبين مظاهر خروج الدين (ممثلا هنا بالإسلام السياسي) من فضائه الخاص إلى المجال العام.   

الانفصالية الإسلامية

يتمثل ذلك في مئات وربما آلاف الجمعيات والمؤسسات الإسلامية وكذلك المدارس الخاصة ونشاط أئمة ودعاة وجمعيات خيرية أجنبية ومواقع إلكترونية، والتي تسعى بثبات ودأب إلى تحويل المجتمعات المسلمة الرئيسية في أوروبا إلى امتدادات عضوية للمجتمعات الأصلية في البلدان العربية والإسلامية. ما يخلق حالة متزايدة من الانفصال النفسي والثقافي وربما لاحقا السياسي بين مسلمي أوروبا وبين مجتمعاتهم الجديدة.  

وليس أدل على ذلك من أن عددا من الدول العربية والإسلامية تقدم نفسها اليوم بوصفها مدافعا وحاميا عن هؤلاء المسلمين، كما لو أنهم مجرد جاليات مقيمة في أوروبا وليسوا مواطنين بإمكانهم اللجوء إلى قوانين وسلطات هذه الدول للدفاع عن أنفسهم في حال انتهكت حقوقهم، مثلهم مثل باقي المواطنين.  

هذا التوجه الذي تقف خلفه بقوة جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها الإخوان المسلمين، هو الذي يخلق مثل هذه الاحتكاكات العنيفة الذي تجري حاليا، سواء تعلق الأمر بقطع الرؤوس أو الهجوم على معبد يهودي أو انتقاد الأديان أو مقاطعة المنتوجات أو التمسك بالعلمانية.     

مركزية الإنسان

لكنه يعيد أيضا الأوروبيين من جديد إلى الجدل القديم الذي تصوروا أنهم قد تخطوه منذ عقود وربما قرون بشأن دور الدين في الحياة الخاصة والعامة وحول الفرد وحقوقه وحول العلاقة بين المؤسسة الدينية والمجتمع وبين السلطة السياسية والسلطة الدينية.. الخ.   

وخلال تاريخها لم يتم حل هذه المسائل بطريقة واحدة في أوروبا بل تعددت الحلول بتعدد التجارب الدينية والسياسية والثقافية. وفي البلدان التي كان تأثير الدين والسلطة الدينية مؤذيا ومدمرا مثل فرنسا، فقد تم تطوير نظام علماني شديد وصارم، في حين طورت ألمانيا ودول أخرى نظاما أقل حدة.  

لكن برغم تنوع هذه التجارب، توصل الأوروبيون في الأخير إلى نفس الخلاصات التي تقوم على مركزية الإنسان وعلى ضرورة توفير القوانين والتشريعات المختلفة لحمايته، فيما أبقت الدين والاعتقادات ضمن الحيز الخاص أو الشخصي. وأبعدتها عن المجال السياسي كلما كان ذلك ضروريا لحماية الأفراد.

بمعنى أن الدستور أو القانون لا يوفر للإنسان حقوقا انطلاقا من كونه تابعا لأحد الأديان أو الاعتقادات أو غير تابع لأي منها، وإنما انطلاقا من كونه فردا وعضوا في جماعة المواطنين. تطور هذا الأمر أيضا في العصر الحديث بحيث بات مجال الحقوق الأساسية يشمل الإنسان بصورة عامة وليس المواطنين فحسب.  

هذا التمييز الجوهري، هو الذي يقوم عليه البناء الفكري والقانوني والفلسفي والسياسي الأوروبي الحديث. لذلك يمكنك أن تنتقد الأفكار والعقائد والأديان المختلفة، لكن لا يمكنك أن تمس حقوق أتباعها المبينة في القانون.

الحرية في الإسلام

بالمقابل فإن الثقافة الإسلامية لم تعرف مثل هذا الفصل والتفريق بين الإنسان الفرد (الذي يملك حرية الاختيار) وبين الإنسان المتدين، وهي قطعا لا تجيزه ضمن دائرتها الخاصة. حتى مفهوم الحرية، وسواء كانت حرية الرأي أو الاعتقاد أو الدين، هي مفاهيم غريبة على الثقافة الإسلامية. مفهوم الحرية هنا يرد فقط في علاقته مع الاستعباد وللتفريق بين “الحر” و”العبد”. خلاف ذلك لا يؤدي مصطلح “الحرية” أي غرض آخر. ومن الصعب العثور في أي من كتب التراث على مقدمات دينية أو نظرية يمكن من خلالها التأسيس لمفهوم الحرية أو إجراء أي نقاش بشأنها، على العكس يمكن بسهولة العثور على إشارات كثيرة، دالة وصريحة في الاتجاه المعاكس.  

ويلجأ البعض أحيانا لاستخدام تعبيرات مثل “حدود حرية التعبير تنتهي عندما تصطدم بحرية الآخرين” اعتقادا منه بأنه وجد الحل السحري لتقييد الحرية!   

الواقع أن هذا التعبير أطلقه أولئك الذين يضيقون ذرعا بحرية التعبير. ومؤداه أنه في كل مرة يمارس أحدهم حريته سوف ينبري له شخص آخر بالقول بأن هذا يصطدم مع حريتي وهكذا. وبالطبع هذه العبارة الهلامية لا تبين متى وأين تبدأ كل حرية ومتى وأين تنتهي.

حرية التعبير

الأصل أن حرية التعبير لا حدود لها (وإلا لما أصبحت حرية) والشرط الوحيد لممارستها هو ألا تنتهك حقا لإنسان آخر بموجب القانون. بمعنى أن الحرية هي القاعدة، فيما الانتهاك هو الاستثناء وليس العكس.

مثلا التشهير بالأفراد أو تهديدهم أو توجيه التهم جزافا إليهم أو منعهم من ممارسة حقوقهم أو إجبارهم على القيام بما يخالف إرادتهم.. الخ، هي مجالات حددها القانون لانتهاك حرية التعبير. أما الآراء السياسية للأفراد والاعتقادات وكل ما يقع في دائرتها، فهي تعتبر مجالا عاما، ولا يمكن تقييد حرية التعبير إزاءها. 

الاستثناء الوحيد هنا هو في حالة وقوع ضرر مباشر على الأفراد جراء ذلك، الأمر الذي يحيلنا من جديد إلى القانون نفسه.

طبعا يمكن للإنسان أن يلاحظ بأن العديد من المجتمعات الحديثة تراعي أمور الأديان والاعتقادات، لكن ذلك يأتي من باب الحساسية الثقافية أو السياسية، وليس لأنها تقع خارج نطاق حرية التعبير. الواقع أن عدد الكتب والصحف والبرامج التلفزيونية وغيرها من الوسائل التي تتعرض بالسخرية أو النقد للأديان والاعتقادات المختلفة في الغرب كبير جد. ولم يحدث أن تعرض القانون لأي منها.   

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *