عمران سمان – الحرة – 30 أكتوبر 2020/
الذين يراهنون بأن نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية سوف تعطل من مسار إقامة العلاقات بين الدولة العربية وإسرائيل، هم ببساطة واهمون. الراجح أن هذه المسيرة سوف تتواصل بغض النظر عمن سيفوز بالبيت الأبيض. لماذا؟ لأن لها أساس عميق في الواقع كما سنرى بعد قليل.
تخطي الحواجز
وبالنسبة لأي مراقب أميركي أو دولي فإن ما حدث في الأسابيع الماضية هو تطور تاريخي يفتح المجال لمقاربات جديدة لحل مشاكل المنطقة. وهو تطور لم يكن ممكنا تصور حدوثه قبل سنوات قليلة فقط.
إن الأهمية التاريخية لاتفاقات السلام بين الدول العربية وإسرائيل لا تكمن في الخطوة نفسها، وإنما في التحول الذي طرأ على العقلية العربية والذي جعلها لأول مرة قادرة على تخطي الحواجز النفسية والأيديولوجية المنيعة، واجتراح حلول غير مسبوقة لقضية مضى عليها عقود. وهو أمر قد تكون له أيضا انعكاسات إيجابية على الطريقة التي سوف تعالج بها هذه الدول مشاكلها الأخرى.
كما أن أهمية إنهاء حالة العداء بين الدول العربية وإسرائيل لا تكمن في عدد الدول التي سوف تتخذ هذه الخطوة، ولكن في أن المنطقة برمتها تشهد بداية تحول في اتجاه جديد، يقوم هذه المرة على قراءات حصيفة للواقع، وما يفرزه من تحديات وما يجلبه من فرص. ومن الواضح أن المزيد من الدول، تتطلع إلى اللحاق بالمسار الذي اتخذته الإمارات والبحرين والسودان.
صنم الأيديولوجية
ولسنوات كانت المنطقة رهينة لأصحاب الشعارات والعقائد الأيديولوجية على الجانبين، وكان من الممكن رؤية الوقت الذي تم إهداره وحجم الفرص التي جرت إضاعتها وكذلك المآسي التي تسببت بها للشعوب والمجتمعات المحلية.
والواقع أن جدار الشعارات والعقائد الأيديولوجية لا زال قائما في المنطقة، لكن الاختراق الذي تحقق، قد أحدث ما يكفي من الشقوق في هذا الجدار، على أمل سقوطه ذات يوم.
ما هو الجوهري في مشاكل المنطقة؟
تعاني منطقة الشرق الأوسط من مشاكل جمة، فهناك المشاكل الاقتصادية وهناك الجمود السياسي والتطرف الديني وهناك الاحتراب الأهلي والطائفي.. إلخ، لكن في القلب من هذه المشاكل تكمن الروح الأيديولوجية المعطلة لكل تقدم أو تطور. وتغذي هذه الروح التصورات السلبية والإحباط لدى المواطنين العرب، كما تنفخ في نظريات المؤامرة والتي تصور بأن مصائر هذه الشعوب مرهونة بالخارج وأن ثمة من يتآمر عليها وأن الحلول لا بد أن تأتي من مكان معين، في الغالب من ماض سحيق، متخيل وغير قابل للتحقق والإثبات.
كما يشكل الخلط بين التصورات الدينية والعقائدية والقرارات السياسية والاقتصادية والمجتمعية وصفة مسمومة لطالما أنهكت المجتمعات العربية ونخبها السياسية والثقافية وجرتها إلى معارك خارج نطاق ساحة الفعل الرئيسية المستوجبة لنشاطها.
وقد آن الأوان لاختبار ذلك كله اليوم على أرض الواقع من خلال هذه الاتفاقيات.
محاولات التشكيك
يجادل معارضو هذا النهج بأن اتفاقيات السلام سوف تصب كلها في صالح إسرائيل ولن تجني منها الدول العربية شيئا. وهذا الادعاء الذي تغلفه الأهواء والآراء الخبيثة من كل جانب، لا تسنده أية معطيات حقيقية.
صحيح أن مصلحة إسرائيل الأساسية كانت ولا تزال تكمن في نيل الاعتراف بها من جوارها العربي كي يتسنى لها أن تعيش حياة طبيعية، لكن الصحيح أيضا أن هذه الاتفاقيات تمثل طوق خلاص للعديد من الدول العربية، للخروج من ربقة الأيديولوجية والتفسيرات الدينية ليس فقط للصراع العربي الإسرائيلي وإنما لمجمل القضايا التي تواجه الدولة العربية اليوم. وهي تفسيرات أصابت هذه البلدان بالتحجر لزمن طويل.
ويكمن خلف ذلك الادعاء أيضا الرغبة في الحط من شأن الحكومات التي وقعت على اتفاقات السلام، وإظهارها أمام المواطنين بمظهر المفرط في حقوقهم وقضاياهم. لكن هذه الحيلة القديمة لا يبدو أنها تنطلي اليوم على أحد.
فالحكومات العربية ليست مكسورة الجناح وهي ليست خلوا من الخبرات والمواهب، وهي قادرة على الاستفادة من الفرص التي تطرحها اتفاقيات السلام هذه لمصلحة شعوبها ودولها، تماما مثل الإسرائيليين.
الخروج من الشرنقة
يبقى القول بأن اتفاقيات السلام هي أبرز إشارة على أن الدول العربية الموقعة عليها قررت مغادرة الماضي إلى المستقبل، بعد أن ثبت لها عيانا جهارا بأن حالة الاحتباس والجمود السابقة، لم تعد منسجمة مع الوضع السائد في عالم اليوم. وأن استكانتها للبقاء في منطقة “Comfort Zone” أو “المنطقة المريحة” هي مسألة خادعة ومكلفة، وأن هذه الدول لا يمكنها أن تحقق أي شيء ذي مغزى إلا من خلال خروجها من تلك المنطقة.
هل سيكون هناك معارضون لهذا التوجه؟ بالتأكيد، والمعارضة ليست مسألة سلبية، هي أمر إيجابي عموما. لكن السلبي والضار هو أن تتحول هذه المعارضة إلى أعمال تحريض على زعزعة الأمن في هذه الدول أو إثارة الشقاق أو تشجيع التمرد الداخلي أو الابتزاز الديني والعاطفي للعامة من قبل تنظيمات وجهات ودول لم تحقق في السابق أي فائدة لشعوبها ومجتمعاتها، ومن باب أولى أنها لا يمكن أن تجلب أية فائدة لأي أحد آخر اليوم.