عمران سلمان – الحرة – 21 ديسمبر 2018/
يقال بأن الوقاية خير من العلاج. لكن قلّة من الحكومات والدول حول العالم تأخذ بهذه النصيحة، حينما يتعلق الأمر بتفادي الاضطرابات السياسية ونشوب العنف. الواقع أن معظم الأزمات المعروفة اليوم هي نتائج مباشر لتجاهل تلك النصيحة. ولعل للمنطقة العربية نصيبها الوافر من هذه الأزمات.
شماعة التدخل الخارجي
تشكو بعض الحكومات العربية باستمرار من التدخلات الخارجية في شؤونها، والعبث بنسيجها الاجتماعي، عبر تشجيع الانقسامات الطائفية والسياسية والعرقية وما شابه. ولكن المتتبع لسياسات هذه الحكومات يدرك بوضوح أن مكمن المشكلة ليس في التدخل الخارجي، الذي سوف يظل موجودا دائما وإن بأشكال مختلفة، ولكنه في سلوكها الداخلي وطريقة إدارتها للاختلافات ما بين مكونات المجتمع.
لا ينجح التدخل الخارجي إلا عندما تفيض المشكلات عن حدها وتتدفق إلى الخارج، حيث تصبح ملموسة وقابلة للاستثمار فيها من قبل الأطراف المعادية لهذه الدول.
والسؤال الأساسي هو، لماذا يتطلع أي طرف داخلي، إلى الخارج طلبا للمساعدة؟ والجواب أن ذلك يحدث بعد انسداد أي إمكانية لحل المشكلات الداخلية، من خلال الآليات المتعارف عليها في المجتمع.
إن تكلفة التدخل الخارجي باهظة ليس فقط على الحكومات ولكن أيضا على المعارضة والمجتمع ككل. فالتدخل يحوّل المشكلات إلى أزمات والأزمات إلى حروب تأكل الأخضر واليابس.
وبالتأكيد فإن العمل على حلّ المشاكل الداخلية عبر التنازلات المتبادلة وإرساء آليات وقنوات دستورية وسياسية مقبولة، يظل أقل كلفة بما لا يقاس من التدخل الخارجي.
للأسف، فإن قلة من الحكومات العربية أثبتت حتى الآن أنها تملك ما يكفي من الحكمة، حيث سارعت إلى نزع فتيل الأزمات بتحويلها إلى مشكلات والعمل على حلها. ولعله من المفيد هنا التأمل في تجربتي المغرب وسلطنة عمان على سبيل المثال.
أوهام الحلّ الأمني
من الملاحظ أيضا أن كثيرا من الحكومات العربية تتصرف بلا مسؤولية تجاه العوامل المسببة للإضراب الاجتماعي والسياسي. فهي تستكين إلى الأمر الواقع وتسكرها نشوة الانتصارات الأمنية على المدى القريب في القضاء على خصومها، لكنها لا تدرك أن هذا الواقع ليس ثابتا، وأنه سرعان ما يتغير ويفرز معه معطيات جديدة.
إن المشكلات لا تموت، حتى وإن بدى أن الأطراف الضعيفة فيها قد سكنت مؤقتا بفعل عوامل القمع والمصادرة. إنها مثل الماء، لا يمكن منعه من الجريان. يمكن وضعه ضمن السدود والحواجز والخزانات وما شابه، لكن الماء الجاري لديه القدرة دائما على إيجاد منافذ يتسرب منها، ولديه القدرة مع الوقت حتى على تفتيت الصخور.
طبعا في العديد من المجتمعات العربية فإن الحكومات لا تعترف أصلا بوجود مشكلات. وهي تصور الأمر كما لو أنه مجرد “مشاغبة” من بعض الأشخاص أو الجماعات، وتوعز لوسائل إعلامها بالهجوم والتشهير بهم وتتصور أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد.
ما يزيد الأمر سوءا، إنه حتى مع العجز عن إيجاد حلول جدية للمشكلات، فإن غالبية مجتمعاتنا تفتقر إلى أطر ووسائل سياسية وإعلامية صحية لعرض المشكلات والتفكير فيها بصوت مرتفع.
ففي العديد من الحالات تكون الحكومات في أمس الحاجة إلى عقول الناس وجهودهم (وأحيانا دعائهم الصالح) من أجل مساعدتها في خلق القنوات المناسبة التي يمكن من خلالها طرح مختلف القضايا والمسائل مثار الخلاف، لكن ما يحدث هو أن السلطات تفوت على نفسها وعلى المجتمع هذه الفرصة وتكتفي بسماع صوتها أو أصوات مسؤولي الدوائر الفاسدة المحيطة بها.
سياسة توليد الاحتقانات
ولعل أكثر ما يلفت نظر أي مراقب للمنطقة أن مجتمعاتنا تجيد توليد الاحتقانات والتوترات. فالمطالب الخدمية البسيطة التي قد يرفعها سكان أي منطقة أو مدينة في أي بلد عربي، ويمكن حلّها عبر إجراءات إدارية عادية، تحولها الحكومات إلى قضية سياسية، ويتم التعامل معها أحيانا بوصفها تمردا على السلطة. ولا تتورع هذه الحكومات عن التهديد بالقوة أو اللجوء إليها فعليا، بهدف قمع أية أصوات مطلبية.
وفي السابق، كان ثمة مساحة معقولة للمعارضات تتحرك فيها، لكن في السنوات الأخيرة تقلصت هذه المساحة كثيرا، وباتت الحكومات العربية مفرطة الحساسية على نحو متزايد تجاه أي شكل من أشكال المعارضة.
وتم استغلال مسألة مكافحة الإرهاب لوصم أي نشاط سياسي لا ترضى عنه هذه الحكومات، كما تم استحداث ترسانة من القوانين والإجراءات القانونية، لتجريم أي شكل من أشكال المعارضة.
حتى أصبح مجرد الكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي، تهمة تقرن بتعابير خطيرة من قبيل “تقويض الأمن والاستقرار” و”تعكير السلم الأهلي”… إلخ.
ينبغي القول إن هذه السياسات نجحت في تمكين العديد من الحكومات العربية من إحكام قبضتها السياسية والأمنية. ولكن السؤال هو بأي ثمن، وهل يمكن أن تدار المجتمعات لفترة طويلة على هذا النحو؟
التاريخ يظهر أن الحكومات تصاب هي الأخرى بالإرهاق والتعب، وهي لا تستطيع أن تبقى في حالة استنفار مستمر. وعاجلا أو آجلا تفقد قدرتها على السيطرة. ولكن حين يحدث ذلك، يكون البديل المتوفر أكثر تطرفا من النماذج السابقة، بعد أن جرى تدمير الجسور مع المجتمع والقوى المعتدلة فيه.
إن جميع الحكومات لديها عادة الفرصة الكافية لإصلاح الوضع وتفويت الفرصة على التدخل الخارجي وما شابه، لكن القليل منها فقط هو الذي يعمل بمقولة “الوقاية خير من العلاج”، والسبب أن معظم الحكومات تعتبر أنها مختلفة ولا يمكن أن يحدث لها ما حدث لجيرانها، لكن النبأ السيء هو أنه حدث وسوف يحدث بشكل أو بآخر.