عمران سلمان – الحرة – 28 دبسمير 2018/
من المؤكد أن قرار الولايات المتحدة سحب قواتها من سوريا قد أثار مشاعر متضاربة لدى الكثيرين. فهناك من جهة من يرون بأن الوجود الأميركي يعتبر عامل ردع لكل من إيران وتركيا وربما روسيا من تنفيذ مخططاتها بصورة كاملة في سوريا وبما يخلق واقعا جديدا يتجاوز ما تم حتى الآن.
وهناك من جهة أخرى من يرون بأن الدور الأميركي لم يكن منذ البداية حاسما في الأزمة السورية، وبالتالي فإن خطوة سحب القوات لا تعدو أن تكون تتويجا لسياسة النأي عن التدخل التي اتبعتها إدارتا أوباما وترامب.
ثمة جهة ثالثة تعتبر أن خروج الولايات المتحدة من المشهد السوري سيصب لصالح تسوية الأزمة بصورة تخدم دمشق وإن كان ذلك على حساب أطراف محلية، أبرزها الأكراد وربما يعزز بصورة مؤقتة من الطموحات التركية في السيطرة على مناطق في الشمال السوري.
ما هو الهدف من البقاء في سوريا؟
وبعيدا عن المؤيدين أو المعارضين تبدو الخطوة الأميركية منطقية بالنظر إلى أن الوجود العسكري الأميركي في سوريا لم يكن له أي مستقبل ولم يكن يخدم أية أهداف باستثناء تلك المتعلقة بمحاربة تنظيم “داعش”.
وحتى هذه الأهداف لم تكن واضحة بما يكفي. فهي تارة تعتمد على الأكراد للقيام بالمهمة وتارة تستند إلى التحالف الدولي الذي لم يعد أحد يتذكر ما الذي يقوم به بالفعل منذ أن انتهت الحملة ضد التنظيم في العراق بنجاح.
بمعنى آخر فإن هذا التحالف لم يضع لنفسه أهدافا تتجاوز العمل العسكري المباشر، ولم تكن هناك يوما ما أية استراتيجية تختص بما بعد تنظيم “داعش”.
حتى القوات الكردية التي كانت تأمل بأن تشكل مساهمتها في تحرير الأراضي من مسلحي “داعش”، عاملا في دفع طموحاتها في السيطرة وإدارة المناطق التي تم تحريرها، قد خفضت من سقف هذه الطموحات بعد أن بدا لها عدم وجود التزام أميركي طويل الأمد بالمنطقة، وبعدما رأته من خذلان لطموحات أكراد العراق في الاستقلال.
والحقيقة أن خسارة الأكراد، ليست وليدة اليوم، ولكنها كانت واضحة منذ البداية بعد أن بنوا استراتيجيتهم كلها على أن القضاء على “داعش”، يمكن استثماره ضمن معادلات الداخل السوري، بعيدا عن الحسابات الإقليمية والدولية.
فقد كان السؤال الملح هو ماذا بعد “داعش”؟ وأين سيكون موقع الأكراد سواء انتصرت دمشق أو أنقرة؟ ففي الحالتين لم يكن ثمة أفق لضمان قيام إدارة كردية دائمة في شمال سورية. والتحالف الدولي أو الدول الغربية لم تكن مستعدة للدفاع عن هذه الإدارة في ظل عدم وجود مشروع سياسي لهذه الدول، مثلما كان الأمر مع الأكراد في شمال العراق بعد حرب الخليج.
طبعا من باب الإنصاف القول بأن القوات الكردية حاربت مسلحي “داعش” في عدة مناطق دفاعا عن النفس، وفي كثير من الأحيان لم يكن لديها خيارا آخر.
وفي السنوات الماضية استشعرت قيادتها السياسية خطر ربط مشروعها بالوجود الأميركي، فسارعت إلى فتح قنوات اتصال مع دمشق وغيرها من العواصم، تحسبا لهذا اليوم. مع فارق أنها حاليا سوف تضطر للتفاوض من موقع أضعف.
تآكل السياسية الأميركية التقليدية
ينبغي القول إن السياسة الأميركية التقليدية في المنطقة قد أصابها التآكل الشديد خلال السنوات العشر الماضية. هذه السياسة التي كان محركها منذ وقت طويل تأمين النفط وحماية إسرائيل، لم يعد لها من أهداف حقيقية.
فالولايات المتحدة لم تعد تستورد النفط من الشرق الأوسط، بل إنها اليوم أحد أكبر مصدّريه. ونفط منطقة الخليج يذهب بمعظمه إلى آسيا وتحديدا الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية.
أما إسرائيل فلم تعد بحاجة إلى الحماية من جيرانها العرب بعد أن زالت إمكانية شن حروب كبيرة في المنطقة.
يبقى التهديد الإيراني لإسرائيل. وهو تهديد لن يتمخض عنه شن حرب بين الدولتين، ولكنه يندرج في إطار التنافس على النفوذ الإقليمي. بمعنى أن إسرائيل لا تريد لأية دولة في المنطقة سواء إيران أو تركيا أو غيرها أن تنافسها على منصب القوة الإقليمية الأولى. والولايات المتحدة تدعمها في هذا الاتجاه.
هذا يعني أنه لم تعد هناك أهداف استراتيجية أميركية كبرى في المنطقة ولكن هناك مصالح صغرى يتعين الحفاظ عليها.
الانعزالية الأميركية الجديدة
هذا التغير الجيوسياسي هو وراء تشكل السياسة الخارجية الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط والقائمة على النأي عن التدخل المباشر أو الانعزالية الجديدة.
وهذه السياسة تقوم على عنصرين رئيسيين. الأول أن الولايات المتحدة ليست لديها الرغبة (وربما القدرة أيضا) على دفع تكاليف أية تسوية للأزمات وبالتالي ترك مشاكل المنطقة لسكانها للتعامل معها؛ والعنصر الثاني أن الولايات المتحدة سوف تتعامل مع الطرف الرابح أيا كان.
هذا التغير في الاستراتيجية الأميركية سوف تكون له تداعيات كبيرة في المنطقة. إما أننا سوف نرى مزيدا من النزاعات وسفك الدماء، وهذا احتمال قائم، أو أن الغياب الأميركي سوف يدفع الدول الأضعف إلى التسليم للأقوى والقبول بتسويات آنية أو بعيدة المدى للمشاكل القائمة.
وثمة شواهد في كلا الاتجاهين. فهناك من جهة إغراء لتورط تركي أكبر في سوريا عبر التصادم مع الأكراد، وهو تورط قد يتحول إلى مستنقع لأنقرة. وهناك إمكانية لإعادة بعث تنظيم “داعش” وخلط الأوراق مجددا في الساحة السورية.
وهناك أيضا احتمالات استمرار أشكال مختلفة من الصدام بين إيران والسعودية وإسرائيل في سوريا والعراق واليمن وربما حتى في الخليج.
لكن بالمقابل هناك أيضا مؤشرات على تسويات محتملة وقبول بالأمر الواقع في عدد من هذه الملفات، وخاصة في الملفين السوري واليمني، إضافة إلى ملف النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
أيا يكن الحال فإن القرار الأميركي بعدم التدخل المباشر في تقرير شؤون المنطقة من شأنه أن يدفع كافة الأطراف إلى إعادة حساباتها من جديد.