عمران سلمان – الحرة – 14 ديسمبر 2018/
الحروب لا تبدأ مع انطلاق المدافع أو زخات الرصاص. حين يحدث ذلك يكون الوقت قد تأخر بالفعل. تبدأ الحروب تبدأ أولا في العقول والنفوس ثم مع الوقت وتوفر الظروف المناسبة تتجسد على أرض الواقع. إن الحيلولة دون نشوب الحرب ينبغي أن تبدأ بإزالة بذرة العنف والدمار من العقول والنفوس، بدلا من اللجوء إلى الوساطات بعد انتشارها. مثل الشجرة حين تزرع بذرتها في الأرض وتترك فإنها تنمو وتكبر، وتصبح إزالتها كل يوم أصعب مما قبله.
النفس الأمارة بالسوء
يجادل السياسيون دائما بأن للحروب أسبابها المنطقية التي لا مفر منها أحيانا، وأن أعمال العنف قد تكون مقبولة، إذا كانت تخدم غرضا لهذا البلد أو ذاك، أو هذه القضية أو تلك. بل هناك من يذهب إلى تقسيم الحروب إلى أنواع منها: الحرب العادلة والاستباقية والهجومية والدفاعية والرادعة… إلخ.
الحقيقة أنه لا توجد أي حرب يمكن تبريرها بأية غاية، سوى خدمة النفس الأمارة بالسوء، وتحديدا جانبيها الخوف والطمع.
فالحروب تشن عادة طمعا في السيطرة وتأكيدا للغلبة والتفوق، ورغبة في الإخضاع وكسر الإرادة. وهذه كلها صفات “الأنا” أو “النفس” حين تتضخم لدى الإنسان وتستحوذ عليه كلية. فلا يعود الإنسان يملك نفسه، وإنما يصبح مجرد عبدا للأنا.إن الحروب وأعمال العنف، تنتمي بجملتها إلى المرحلة “الحيوانية” في تطور الجنس البشري
إن النفس تصور للإنسان بأنه الأفضل والأقدر والأكثر حكمة وسياسة وذكاء، وبالتالي يتعين عليه أن يحصل على الاعتراف من الآخرين بذلك، وإن لم يفعلوا ينبغي عليه أن يخضعهم. وهي تسوغ له ذلك باعتباره أمرا مشروعا، وأحيانا عادلا.
حين كان بعض الناس يسألون زعيم تنظيم “القاعدة” في العراق أبو مصعب الزرقاوي، لماذا تقتلون الناس بالجملة وبينهم أبرياء؟ كان جوابه: إن كان القتيل بريئا فقد عجلنا بذهابه إلى الجنة، وإن كان مذنبا فقد خلصنا المسلمين من شره!
هذا المنطق ليس نتاج أي دين أو تعاليم أو تفسيرات دينية، بل هو منطق “الأنا” المتضخمة لدى الإنسان، والتي تستخدم الدين وغير الدين لأغراضها.
مواجهة الشر بالشر تقويه
يميل عدد لا بأس به من الناس أيضا إلى تشجيع مواجهة الشر بالشر. ففي النزاعات الداخلية مثلا وخاصة المسلحة منها، يعتبر هؤلاء أن الرد على عنف الحكومات، ينبغي أن يكون من نفس الجنس. ويذهبون إلى الاستشهاد بالأديان والمواثيق الدولية وما شابه لتبرير ما يعتبرونه دفاعا عن النفس.
ولا ريب أن الطبيعة البشرية (وهي طبيعة في مجملها خاضعة لسيطرة الأنا) تميل إلى هذا النوع من الرد، وتعتبره إجراء منطقيا ومشروعا.
لكن الواقع أن مواجهة العنف بالعنف، لا توقف المعتدي، وإنما تقويه. إنها تقدم له مبرر استخدامه للعنف بأثر رجعي. ثم أنها تشيع ثقافة العنف على جانبي النزاع، وتديم استمراره. والحقيقة أنه لا حدود للعنف، فكلما ازداد ضراوة، كلما شعرت “الأنا” المتضخمة بأنها بصدد تحقيق غاياتها وأمانيها.إن مواجهة العنف بالعنف، لا توقف المعتدي، وإنما تقويه
على العكس من ذلك فإن مواجهة العنف بالسلم وعدم الانجرار إلى منطقه، تنزع عنه كل مبرر، بل وتجعله فعلا مستحيلا بذاته. إن الأمر هنا أشبه بشد الحبل، فلكما شد الحبل من الطرفين، كلما أصبح أقسى وأشد، حتى يكاد ينقطع. في حين إذا شد شخص طرف الحبل بينما الثاني أرخاه، صعب على الأول مواصلة الشد. بل لن تكون هناك عملية شد من الأساس.
طبعا “الأنا” لدى الإنسان تعتبر ذلك ضعفا وجبنا، وتحاول إقناعه بضرورة الدفاع عن نفسه، وعدم ترك الآخرين يستهينون به أو يستضعفونه.
لكن الحقيقة هي أن ذلك التصرف هو منتهى الشجاعة والحكمة. الشجاعة في مواجهة “الأنا” ومنعها من الاستجابة لداعي العنف، وكبح جماح الغرائز البدائية وهذا هو الأمر الأصعب لدى كل إنسان. والحكمة في إدراك أن التزام جانب السلم، ينقل عبء مشكلة العنف وأزمته إلى الطرف الآخر، حيث يجعله يرى بنفسه ما يقوم به من أعمال وانتهاكات، فيكون ذلك مبررا للردع. بينما مواجهة العنف بالعنف يجعل الاثنين في حالة غياب تامة، مما يسهل معه تحول العنف إلى أعمال وحشية.
أنا أصغر = عنف أقل
إن الحروب وأعمال العنف، تنتمي بجملتها إلى المرحلة “الحيوانية” في تطور الجنس البشري (المعادن/ النبات/ الحيوان/ الإنسان). وليست هناك قضية أو مشكلة لا يستطيع الإنسان حلها من دون اللجوء إلى العنف.
ولعل الأهم ليس فقط أننا لا يجب أن نلجأ إلى العنف، وإنما أيضا كيف نزيل مبررات استخدام العنف عند الطرف الآخر، بحيث لا يعود ممكنا ممارسة العنف ابتداء. إن الخطوة الأولى على هذا الطريق لا تبدأ من الآخر، وإنما من الإنسان نفسه. فحين ينشغل الإنسان بإصلاح عيوبه وأخطائه ويقوم بعملية خلق نفسه من جديد وتقديم الصيغة الأفضل منه، فإنه يقدم نموذجا إيجابيا للآخرين، لا يملكون معه سوى الإعجاب به والعمل على تقليده.ثمة أوقات يصعب فيها وقف العنف أو الحرب من دون التدخل عسكريا، لكن التدخل الذي يلجأ إليه الإنسان مكرها شيء وشن الحرب شيء آخر
بالطبع ثمة أناس سيكونون بالمرصاد لهذا الإنسان، لأن ما يفعله يشكل تهديدا لسيطرة “الأنا” لديهم. وهم سوف يقومون بكل ما يستطيعون من استفزاز وتحرش لإعادته من جديد إلى حضن “الأنا”، وأحياء الغرائز البدائية لديه، لكن وعيه واستمراره على ذات الطريق من شأنه أن يصيب “الأنا” باليأس ومن ثم يدفعها مع الوقت إلى الرضوخ.
إن من المهم أن نستوعب أن العنف لا يتم بين الأشخاص حقيقة، ولكنه يتم بين “الأنا” لدى إنسان و”الأنا” لدى إنسان الآخر. كلا “الأناتين” تتصارعان على إحراز لقب “الأقوى” و”الأقدر” و”الأفضل”.
لذلك كلما كانت “الأنا” في الإنسان أصغر وأضعف ولا يمكن ملاحظتها، كلما صعبت ممارسة العنف، والعكس صحيح. ولهذا نصادف أحيانا بعض البشر الذين لا يمكننا أن نتخيل إمكانية ممارسة العنف معهم (فعلا أو لفظا)، لأنهم ببساطة لا يتركون لنا سبيلا لذلك.
أخيرا، أعلم تماما بأن هذا الأمر ليس سهلا مثلما يبدو. فثمة أوقات يصعب فيها وقف العنف أو الحرب من دون التدخل عسكريا، لكن التدخل الذي يلجأ إليه الإنسان مكرها شيء وشن الحرب شيء آخر. والمهم كما أسلفت في أكثر من مكان هنا، هو العمل على جعل الحرب أو العنف خيارا صعبا إن لم يكن مستحيلا.