عمران سلمان – الحرة – 4 يناير 2019/
ينشغل كثير من المثقفين والناشطين بالتاريخ لإثبات صحة آرائهم أو الحجج التي يطرحونها. فيحلو لبعض هؤلاء حين يريد إثبات حالة اضطهاد سياسي أو ديني مثلا أن يشير إلى زمن أو حادثة بعينها، كي يثبت أن المسلمين اضطهدوا المسيحيين أو المسيحيين اضطهدوا اليهود أو العكس.
الحقيقة هي أن التاريخ يحمل في جنباته أحداثا ومواقف كثيرة في كل الاتجاهات، وبالتالي هي لا تصلح لإثبات شيء. لأنه دائما سوف يكون هناك موقف آخر قبله وبعده وهكذا. طبعا هذا إذا افترضنا أصلا أن ما بين أيدينا هو تاريخ موضوعي. والحال أن التاريخ يكتبه المنتصرون أو الأقوياء دائما. لذلك فإن الرواية السائدة هي رواية المنتصر، وليست بالضرورة الرواية الحقيقية.
ضع نفسك مكان الآخر
وحتى في حالة العثور على حادثة تاريخية تؤكد فكرة ما، فما الفائدة منها وقد أصبحت جزءا من الماضي، وجميع من شاركوا فيها باتوا تحت التراب. يمكن الاستفادة منها في عدم تكرار نفس الحادثة في الحاضر، ولكن هذا لن يكون عبر الاستمرار في التركيز والحديث عن الماضي. فلا يمكن النظر إلى الحاضر عبر تأبيد الماضي.
إن الهدف لا يجب أن يكون إقناع الآخر بأن وجهة نظره خطأ، وإنما الأجدى من ذلك هو مساعدة الآخر على الانتقال إلى مستوى جديد في النقاش، لا يكون فيه غالب ومغلوب، وإنما رؤية جديدة للمشهد ومن زاوية تهم الاثنين. ويكون الهدف هو بناء شراكة في النظر إلى الأحداث بطريقة يمكن البناء عليها من أجل مصلحة الحاضر.
هذا السلوك ينقل العلاقة إلى مستوى جديد، ويمنع تكرار أخطاء الماضي.
ولكي يحدث ذلك يحتاج الإنسان من حين إلى آخر إلى أن يتدرب على وضع نفسه في موقع الآخر، كي يرى ما لم يكن قادرا على رؤيته من قبل. هنا يكون مجال الرؤية قد اتسع لديه لأنه أصبح تحت تصرفه أكثر من رؤية، رؤيته ورؤية الآخر.
هذا يجعله أيضا يتفهم الآخرين والدافع وراء مواقفهم، وماذا يشعرون به، بدلا من الوقوف عند رأيه وموقفه فقط.
استثمر في الإنسان وليس في أفكاره
يجب أن يفرق الإنسان بين الفكرة وصاحبها. فلا يستثمر في الفكرة وإنما في الإنسان. بمعنى أن تركيزنا يجب أن ينصب على نبذ الرأي الذي نعتبره خاطئا وليس إدانة صاحبه. إن إدانة المخالف تجعل أفكاره أقوى لديه، لأن صاحبها سوف يتمسك بها ويرى فيها امتدادا له. بينما التمييز بين الاثنين يساعد الإنسان على رؤية أن مخالفة رأيه ليس مخالفة له. وأن الآراء تذهب وتأتي، تتغير وتتبدل مع الوقت بحسب المعلومات المتوافرة لدى كل إنسان في فترة معينة.
المؤسف أن أغلبنا يهمه فقط أن يخرج منتصرا في النقاش، وأن يثبت خطأ الآخرين. وهو يتصور أن الانتصار الوهمي الذي حققه سوف يجلب له الفائدة. إنه بهذا التصرف يهزم الهدف الذي من أجله جرى النقاش، وهو عدم تكرار الأخطاء الماضية. فهو يجعل الآخرين يتمسكون بمواقفهم ويبحثون عن أدلة جديدة في التاريخ تدعم وجهة نظرهم، ولن يعدموا العثور عليها كما أسلفت أعلاه. وبالتالي يكون قد فوت الفرصة على نفسه وعلى الآخرين، للخروج من الحلقة المفرغة القائمة على التهم والتهم المضادة.
عش الحاضر بدلا من تأبيد الماضي
هذا لا يعني أنني أدعوا إلى إنكار المظالم والاضطهاد الذي تعرض له أتباع مختلف الأديان والطوائف والجماعات عبر تاريخنا العربي أو التقليل من شأنه. على العكس من ذلك، فإن من أبسط حقوق الإنسان أن يحصل على اعتراف واعتذار أيضا عما لحق به أو بإسلافه. ولكن المقصود هنا هو أن الوقوف عند تلك الحوادث ومحاولة إجراء محاكمات بأثر رجعي، وإدانة البشر الحاليين (أو دينهم أو طائفتهم أو عرقهم) عما ارتكب في أزمان ماضية ليس مفيدا.
لأن من شأن ذلك أن ينقل الماضي إلى الحاضر ويفسده ويجعل تلك الحوادث تتكرر وإن بأشكال مختلفة.
المفيد والمطلوب هو أن يساعد كل طرف الآخر على تجاوز الماضي، والتخلص من عقدته، والاستثمار في الحاضر، وأول خطوة في هذا الاتجاه هي أن يهتم كل منا بنفسه، ويبحث في زواياها عن أفكار سلبية أو انتقامية من الآخر، ويضعها على الطاولة بغية تشريحها.
أولا؛ سوف يكتشف أن تلك الأفكار في الأعم ليست أفكاره هو وإنما استعارها من آخرين، سواء سمعها أو قرأها أو شاهدها، ولاقت هوى لديه، ثم قام عقله خلسة بتخزينها، وقام هو باستحضارها وترديدها، معتقدا أنها أفكاره.
وثانيا؛ سوف يكتشف أنها من حيث جوهرها تنتمي إلى الماضي، بمعنى أنها تكونت في الغالب عن أحداث ماضية ولا تعكس بمجملها ما يدور في الواقع الحالي. لذلك هي تواصل العيش في عقل الإنسان، حيث لا يمكن تحديها، لأن الماضي قد انتهى وما بقي منه مجرد روايات وتفسيرات ذاتية.
ثالثا؛ وأخيرا، سوف يكتشف أنه لا يمكن تحقيق شيء حقيقي وذو قيمة، إلا بالتعاون مع الآخر وليس معاداته أو نفيه، وإن أقصر الطرق لذلك هو الانطلاق من الحاضر، بنية صادقة وقناعة أكيدة وشعور بأن الجميع يمكن أن يخرجوا منتصرين.