عمران سلمان – الحرة – 11 يناير 2019/
يظهر أن تأثير الطبيعة البشرية على الإنسان أقوى من تأثير الأديان. فرغم تعاقب ظهور الأديان وانقسامها وتفرعها، وظهور آلاف المتحدثين باسمها والداعين إلى قيمها، فإن سفك الدماء والعداوات بين البشر لم تتوقف منذ فجر التاريخ، ولم تنج من ذلك بقعة جغرافية أو أتباع دين أو مذهب.
يقولون ما لا يفعلون
تدعو الأديان إلى نشر قيم المحبة والرحمة والعدل والمساواة والأخوة والإيثار.. إلخ، لكن غالبية البشر أبعد ما يكونون عن هذه القيم، في حياتهم العملية.
كثيرون يرددون هذه القيم على السطح ليل نهار، لكنهم قلما يلتزمون بها في أفعالهم، أو يشجعون غيرهم على الأخذ بها.
ففي المجال السياسي، ينحاز معظم الناس إلى جهات متباينة، يرمون خصومهم بكل الاتهامات وينعتونهم بشتى الأوصاف، سواء الحقيقي منها أو المتخيل، ولا يتحرجون عن التحريض ونشر الكراهية والتشجيع على العنف.
وفي الحياة الاجتماعية، يفعلون الشيء نفسه؛ فهم يقسمون البشر إلى مستويات ويصنفونهم إلى انتماءات. يقربون بعضهم ويبعدون آخرين، من يحبونهم يغدقون عليهم أطيب القول، ومن يبغضونهم يرمونهم بكل الموبقات.
يحدث ذلك، بينما تستمر شفاههم تردد ما تدعو له الأديان من قيم وفضائل، وفي الوقت نفسه، يستمرون في فعل عكس ما يرددون.
ويتساءل الإنسان، أين الخلل؟
ففي الإنجيل يقول المسيح “َأحبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ”. وفي القرآن يقول الله إن “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ”.
لكن في الواقع العملي فإن المخالفين أو الأعداء يقتلون، بينما يكره كثيرون على الدخول في الدين أو يجري التمييز ضدهم بسبب رفضهم ذلك!
ويمكن إيراد أمثلة كهذه وغيرها من جميع الأديان تقريبا.
الطبيعة البشرية أقوى
والسؤال هو: هل من المعقول أن الإنسان لا يلاحظ أن ما يقوله يتناقض مع ما يفعله؟
والجواب: بلى. الإنسان يلاحظ كل ذلك، ولكن طبيعته البشرية أقوى. إنها تصور له بأن هذا التناقض مقبول منه بما أنه مجرد بشر وليس نبيا! بمعنى أنها تقول له بأنك، أيها الإنسان لا يجب أن تشعر بالذنب، لأنه لا أحد يتوقع منك أن تتصرف بخلاف ما تستطيع أو تقوى عليه. وحدهم الأنبياء والرسل هم القادرون على القيام بذلك.
هذه الحيلة، التي تتبعها النفس البشرية، للمحافظة على تسيّد طبيعتها، تقدم للإنسان حلا للتناقض بين ما جاءت به الأديان وبين ما يفعله، يأخذه كثير من البشر لردم فجوة التوقعات بين الأقوال والأفعال.
لكنه ليس حلا حقيقيا بطبيعة الحال. إنه مجرد التفاف على المشكلة. لأن القيم والفضائل التي جاءت بها الأديان، غايتها إصلاح البشر وليس الأنبياء أو الرسل.
الحقيقة أن غالبية الأديان، كانت مدركة للطبيعة البشرية في الإنسان، واشتغلت منذ البداية على تطويعها. وتعتبر المحاولات المبكرة لتبيان الطبيعة المزدوجة للنفس ما بين (الفجور/التقوى) ثم تقسيم النفس البشرية إلى مستويات أو صفات تبدأ بالنفس الأمارة وتنتهي بالنفس الكاملة، مرورا بالمحاولات الكثيرة للسيطرة على الأشكال الأدنى من النفس لصالح الأعلى منها، بما في ذلك العبادات والطقوس، تعتبر كلها محاولات لخلق إنسان قادرة على تجاوز طبيعته البشرية.
لكن جميع هذه المحاولات وإن صادفت بعض النجاح هنا أو هناك، إلا أنها لم تنجح على نطاق واسع.
سر الحياة في الاختلاف
والسبب من وجهة نظري هو أن هزيمة الطبيعة البشرية في الإنسان سوف تعني نهاية الحياة بالشكل التي نعرفها. فإذا اتبع الناس جميع ما جاءت به الأديان من قيم وفضائل، وطبقوها في واقعهم العملي، فقد انتفى كل سبب للحركة والتغيير.
وهذا هو سر الحياة. من واجب الأديان أن تقوم بوظيفتها ومن واجب الطبيعة البشرية أن تقوم بواجبها هي الأخرى. والتفاوت بين هذا وذاك هو الذي يمنح الحياة كل أشكال التنوع والاختلاف وينتج ما لا حصر له من التجارب البشرية.
لا تستطيع الأديان أن تهزم الطبيعة البشرية ولا تستطيع هذه الطبيعة أن تطرد الأديان، لكن إحداها قد تكون لها اليد الطولى على الأخرى، وفي المرحلة التاريخية الممتدة منذ بداية الإنسان وحتى الآن، كانت اليد الطولى للطبيعة البشرية، بسبب قدمها وتجذرها، لكن قد ينقلب الأمر في مرحلة لاحقة، فتميل الكفة للأديان. ونحن نرى أن الانتشار الواسع والسريع للروحانيات اليوم، يعتبر بمثابة إرهاصات في هذا الاتجاه. لكن استمرار الحياة على النحو المعروف سوف يتطلب بقاء الاثنين.
نحو فهم أفضل
إن هذا الفهم، يفترض أن يشجع الإنسان على التقليل من الغلواء والحلول النهائية، وأن يرى الحياة ليس باعتبارها خطا مستقيما له بداية ونهاية، وإنما خطا متعرجا في كل الاتجاهات، وأن الحياة ليست مجرد ضفتي نهر، إحداها تحمل الخير والفضائل والأخرى تحمل الشر والرذائل، وإنما هي ضفاف متداخلة على نحو يحمل بعضها الخير والشر في نفس الوقت. والإنسان بهذا المعنى لا يدري ما إذا كانت السيطرة الحالية للطبيعة البشرية على الإنسان في مواجهة قيم الأديان، تحمل شيئا مفيدا له أم لا.
لكن المرجح أن الحياة تتطور في اتجاه تصاعدي، بصورة تساعد الإنسان على الإدراك على نحو أفضل بأن التناقضات ليست جيدة أو سيئة. إنها وإن بدت غير مستحبة، إلا أنها مطلوبة لضمان جريان الحياة، مثل التيار الكهربائي، الذي لا يمكن أن ينتج من دون فرق في الجهد.
إن التيار الكهربائي دائما كامن في الطبيعة، ولكن فرق الجهد هو الذي يخرجه من حالة الكمون إلى الوجود. وكذلك تفعل التناقضات في الحياة بالنسبة للإنسان.