عمران سلمان – الحرة – 18 يناير 2019/
أتفهم وأتعاطف تماما مع موقف السوريين المعارضين الذين كانوا يتطلعون إلى نظام حكم أفضل في بلادهم، والذين عانى كثير منهم الأمرين بسبب هذا النظام. وأتفهم بالتالي حجم الشعور بالإحباط والمرارة جراء ما آلت إليه الأوضاع، ومن بينها ذلك الإحساس الممض بتخلي المجتمع الدولي عنهم.
لكن ثمة قراءة أخرى للأزمة لا ينبغي أيضا إغفالها. وهي التي سأركز عليها هنا، لأنها برأيي تمثل الصورة الأكبر للمشهد والأهم من الناحية الاستراتيجية.
خطأ تاريخي
سأقول إن المجتمع الدولي كان سيتركب خطأ تاريخيا قاتلا، لو أنه (بقصد أو بدون قصد) قد ساعد الجماعات الإرهابية مثل جبهة النصرة وأحرار الشام وجيش الإسلام وما شابهها على الاستيلاء على السلطة في سوريا.
لنا أن نتصور أي بلد يمكن أن يكون سورية تحت حكم هذه الجماعات، وأي حياة ستكون لمن بقي داخل البلاد، وخاصة الأقليات منهم. وماذا سوف يفعل الجوار السوري مع كل هذه الفوضى وهذا التطرف الديني؟
لا نحتاج إلى إعمال المخيلة، فنماذج الحكم تحت ظل داعش وطالبان وغيرها ماثلة للعيان، ويمكن لمن شاء أن يعود إلى أرشيف أية وسيلة إعلامية في الدنيا للوقوف على حقيقة ذلك.
الحقيقة أن هذا للأسف هو البديل عن نظام الأسد، وعاجلا أم آجلا لو تمكنت هذه الجماعات من إسقاط النظام، سوف تكون هي من يحكم البلاد. في البداية سوف تتصارع فيما بينهما، ثم يؤول الحكم إلى أقواها، وهي هنا الجماعات الأكثر تشددا.
ولمن يستغرب إمكانية حدوث ذلك نقول إنه لو لم يجتمع العالم كله لمحاربة تنظيم داعش، لكانت “دولته” قد بقيت حتى اليوم، بل لترسخت وتمددت ووجدت الناس يدخلون تحت حكمها وحدانا وزرافات.
حرب جهادية
والواقع أن هذه الجماعات (وخاصة جبهة النصرة وأحرار الشام وجيش الإسلام) ليست طارئة على مشهد الأزمة. فالنصرة تشكلت في آب/أغسطس عام 2011 بعدما عبرت عناصرها سورية قادمة من العراق وأعلنت رسميا عن وجودها مطلع عام 2012، أي خلال أقل من عام على التحركات المطلبية. بينما تقول حركة أحرار الشام إنها تشكلت في شهر أيار/مايو عام 2011.
والعناصر التي انشقت عن الجيش السوري النظامي، سرعان ما وجدت نفسها إما ضمن الجيش الحر أو الجماعات الجهادية.
وبالتوازي مع ذلك بدأت تدخل إلى سوريا من البوابة التركية كتائب الشيشان والقوقاز والجهاديين القادمين من أوروبا وأميركا والدول العربية، فتحولت الأزمة السورية من ثورة أو مطالبات بالتغيير إلى “حرب جهادية”، هدفها كما يقولون “إقامة حكم الله”.
هل كان هذا نتيجة حتمية؟ لا أدري. ولكن ثمة شواهد على أنه في الوقت الذي كانت فيه الاحتجاجات السلمية تتواصل ضد حكم الرئيس بشار الأسد، والذي لم يتردد على أية حال في استخدم القوة لمواجهتها، كانت تجري في الوقت نفسه عمليات محمومة لتأسيس وتشكيل الكثير من الجماعات والكتائب والألوية الإسلامية وتحت مختلف المسميات والعناوين والتي كانت طوال سنوات الأزمة تتحد وتنقسم ثم تنقسم مرة أخرى، مثل الخلايا السرطانية.
ولا حاجة إلى القول إن هذه الجماعات أصبحت لها اليد الطولى في الأزمة في زمن قياسي، بينما تبخرت الجماعات المعتدلة. وبسبب تطلعها إلى الأموال الخليجية لم تتوان تلك الجماعات عن استخدام الورقة الطائفية في الأزمة بصورة مخيفة. وهو أمر لاقى هوى أيضا لدى الأطراف المقابلة في إيران والميليشيات التابعة لها.
مأزق التدخل الغربي
هذا الواقع هو الذي يفسر ما يسميه البعض بنجاح روسيا في سوريا وفشل الولايات المتحدة. الحقيقة أن الأخيرة لم تفشل لأنها لم تدخل أساسا في الأزمة ولم يكن لها أن تدخل فيها. ففي الوقت الذي كانت روسيا تساعد الحكومة السورية (المعترف بها دوليا)، فمن كانت ستساعد الولايات المتحدة؟
لا يمكنها بالطبع أن تقف مع جبهة النصرة، وهي الفصيل الأقوى بين المسلحين الجهاديين، ولا يمكنها أن تقف مع حركة أحرار الشام أو جيش الفتح أو جند الأقصى أو غيرها.
حتى المجموعات “المعتدلة” التي حاولت الولايات المتحدة أن تسلحها وتدربها (وهو جهد أقل من متواضع) سرعان ما سحقت على أيدي مسلحي النصرة، وتم الاستيلاء على أسلحتها.
لذلك، انصب الدور الأميركي في سورية على مسألتين. الأولى هي محاربة تنظيم داعش والقضاء على العناصر الخطيرة في تنظيم القاعدة، والثانية هي ضمان أن لا تلحق العمليات التي يقوم بها الجيش السوري الأذى بالمدنيين على نطاق واسع. ولا يستبعد أن يكون هناك ضوء أميركي أخضر للحكومة بإخراج الجماعات الجهادية من مناطق تواجدها السابقة في عدد من المحافظات السورية ولا سيما في ريف دمشق وجنوب سوريا.
حكم الدولة وحكم العصابات
أيا يكن الحال وأيا تكن نتيجة الأزمة، من الواضح أن وجود الدولة يظل أفضل ألف مرة من حكم العصابات والجماعات الإرهابية. وهذا الأمر يصح في سوريا وغير سوريا. إن المقارنة هنا ليست بين حكم ديكتاتوري عسكري وآخر ديمقراطي مدني، لكنها مقارنة بين وجود دولة أو عدم وجودها. وما حدث خلال السبع سنوات الأخيرة على الأقل كان محاولة واضحة لتقويض الدولة السورية، واستبدالها بحكم الجماعات والمسلحين، تحت عناوين “إقامة الدولة الدينية وإحلال الشريعة الإسلامية” والقضاء على الأقليات المذهبية والدينية الأخرى. وهذه الجماعات على كثرتها وتعدد مموليها لم تكن تخفي هذه الأهداف، فهي واضحة ومعلنة في أسمائها وبياناتها وراياتها وانتماءات قادتها وعناصرها.
ولا ريب أن النظام السوري قد استغل وجود هذه الجماعات لمصلحته وتبرير ضرب معارضيه السلميين، لكن هذا لا يغير من واقع أن هذه الجماعات كانت تشكل خطرا محدقا على سوريا والمنطقة والعالم. وينبغي على السوريين قبل غيرهم أن يحمدوا الله على أنها لم تتمكن من الوصول إلى الحكم في بلادهم.