عمران سلمان – الحرة – 1 فبراير 2019/
تستمر الاحتجاجات السودانية التي دخلت شهرها الثاني والتي يؤشر الزخم الذي تتواصل به أنها في طريقها لاقتلاع نظام حكم الرئيس عمر البشير. في هذا الوقت بالذات، وفي الثامن عشر من شهر كانون الثاني/يناير الماضي حلت الذكرى الرابعة والثلاثين لإعدام زعيم الجمهوريين والمعلم الروحاني الكبير محمود محمد طه. وهي ذكرى أليمة لا تزال أصداؤها حتى اليوم تتردد في الواقع السوداني وفي غيره.
نظام البشير امتداد لحقبة نميري
لم يكن البشير أو حزبه يحكمان السودان في عام 1985 عندما أعدم الأستاذ محمود محمد طه، بل كان جعفر نميري والزعيم الإسلاموي حسن الترابي، الثنائي المسؤول عن ذلك، ولكن الفكر الذي يتبناه نظام البشير هو نفسه الفكر الذي أنتج تلك المأساة، والممارسات والسياسات هي نفسها.
وهو نفس الفكر الإسلاموي الذي قاد السودان ـ منذ عام 1983 حين فرض نميري قوانين أيلول/سبتمبر الإسلامية سيئة الصيت ـ إلى الدمار والخراب، بما في ذلك انفصال الجنوب.طه يمثل اتجاها تجديديا أصيلا في الإسلام، ويسعى إلى تقديم قراءة جديدة وعصرية له، مما لا يطيقه الإسلامويون
ولذلك يأمل الإنسان من قادة الاحتجاجات الحالية وبعد أن تنتصر ثورتهم أن لا يعيدوا إنتاج ذلك الفكر بنسخ جديدة وتحت عناوين جديدة. وإنما يشكلوا قطيعة تامة معه، ويعملوا على بناء سودان جديد قائم على الدولة المدنية وقيم العدالة والحرية. وهي القيم التي نادى بها الأستاذ طه وقدم هو وآلاف السودانيين حياتهم ثمنا من أجلها.
احتكار الدين والسلطة
يقوم الفكر الإسلاموي على ثلاثة عناصر أساسية. الأول هو مبدأ احتكار الحديث باسم الإسلام. وهو يسمي تنظيماته وجماعاته عمدا بعبارات إسلامية، كما هو الحال مع الإخوان المسلمين، لأنه يريد أن يوحي بأنه هو وحده من يمثل الإسلام، وأن الإنسان المسلم لا يكتمل إيمانه ويصح إلا بالانتماء إلى هذه الجماعات. بل أن إيحاءه هذا يمتد إلى الاعتقاد بأن سكان هذه الدول لم يعرفوا الإسلام أو كانوا غافلين عنه حتى قدوم هذه الجماعات، كما يشير إلى ذلك تعبير “الصحوة” الذي يستخدمه بعض الإسلامويين.
احتكار هذا التيار للدين، ينسحب لاحقا على احتكاره للسلطة أو العمل السياسي، وهذا هو العنصر الثاني. فما دام أنه قادر على احتكار الدين والحقيقة المطلقة المتأتية منه، فمن باب أولى أن يحتكر السلطة السياسية وتمثيل الناس. وهذا ما قام به تنظيم البشير في السودان وغيره من التنظيمات الإسلاموية في المنطقة.
أما العنصر الثالث فهو سلوكه تجاه معارضيه. يتميز هذا السلوك عادة بالإقصاء والتهميش ثم الاضطهاد. ولقد أفرغ نظام البشير ـ طوال سنوات حكمه الثلاثين ـ السودان من كوادره المدنية والعسكرية ممن لم يشاطروه رؤيته، كما تفنن في تعذيب وإذلال خصومه، ولعل بيوت الأشباح لا تزال حاضرة في أذهاب السودانيين.
كانت التهمة الأولى التي وجهت للأستاذ محمود محمد طه في محاكمته في الثامن من كانون الثاني/يناير 1985 والتي حكم في ضوئها بالإعدام هي كراهية نظام الحكم. ثم تحولت التهمة بعد ذلك بأسبوع إلى الردة لدى نظر القضية من قبل محكمة الاستئناف برئاسة القاضي المكاشفى طه الكبّاشى الذي ثبت الحكم.
قراءة عصرية للإسلام
التخلص من الأستاذ طه كان هدفا سياسيا لنظام نميري خاصة بعد معارضته الصريحة والعلنية لقوانين أيلول/سبتمبر ولمجمل سياسات هذا النظام، لكن ثمة هدف آخر أيديولوجي أكبر كان وراء التخلص منه وهو الذي سعى له التيار الإسلاموي.احتكار التيار الإسلاموي للدين، ينسحب لاحقا على احتكاره للسلطة أو العمل السياسي
فالأستاذ طه يمثل اتجاها تجديديا أصيلا في الإسلام، ويسعى إلى تقديم قراءة جديدة وعصرية له، مما لا يطيقه الإسلامويون. تقوم هذه القراءة التي لخصها بعمق في كتابه القيم “الرسالة الثانية من الإسلام” على الانتصار إلى الجانب الروحاني وعلى المسؤولية الفردية في الإسلام.
وهو يعتبر أن الفترة المكية (الدعوة) هي الأصل في الإسلام وهي التي تمثل الدين رغم تعدد أسمائه وما جاء على لسان مختلف الرسل والأنبياء، المعروف منهم وغير المعروف، وهي صالحة لكل الأزمان، بينما الفترة المدنية (التشريع) هي الفرع وهي الخاضعة لتغير الزمان والمكان.
وقد دعا إلى تحقيق المساواة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، كما دعا إلى الحرية الفردية المطلقة، والعدالة الاجتماعية الشاملة. وأوضح من بين أمور كثيرة أن الجهاد والرق وعدم المساواة بين المرأة والرجل والحجاب ليست من أصول الإسلام.
وكانت وسيلته في إصلاح المجتمع هي إصلاح الفرد “على قاعدة من المراقبة والمحاسبة للنفس، تنقية وترقية لها نحو معالي المعرفة والسلوك”. وقد دعا تلاميذه إلى عيش ما يدعون اليه من قيم الدين، وإلى أن يعيشوا اللحظة الحاضرة (هنا والآن) وإلى “القيام بواجباتهم المباشرة جهد الطاقة، ثم الرضا بالنتيجة أيا كانت”.
العبور إلى القرن الجديد
إن الطريق الذي اختطه الأستاذ محمود محمد طه لنفسه ولأتباعه كان يشكل علامة فارقة في تحديث الإسلام، عبر المزج بين الروحانية والعصرنة، وكان يمكن أن يشكل طريقا آمنا لعبور السودانيين والمسلمين إلى القرن الحادي والعشرين. لكن من الواضح أن المجتمع السوداني ومجتمعاتنا عموما ليست جاهزة بعد لهذا النوع من الحلول. ولذلك كان من السهل على نظام نميري/الترابي التخلص من صاحب “الرسالة الثانية من الإسلام” ومطاردة أتباعه وتهميشهم. ثم جاء نظام البشير ليرسخ التيار الإسلاموي ويعيد السودان عقودا بعيدة إلى الوراء.
الاحتجاجات الحالية قد لا تحدث بالضرورة نقلة مباشرة في هذا الإطار، لكنها بالتأكيد تشكل فرصة أمام السودانيين، للعمل على تقديم عقارب الساعة والقفز بالزمن إلى الأمام. ولعل أهم خطوة على هذا الطريق هي إعادة الاعتبار للأستاذ محمود محمد طه ولقيم التسامح والتعددية والروحانية التي اشتهر بها أهل السودان، والتي سعت تيارات وأنظمة الاستبداد الديني إلى طمسها.