الهويات والعصبيات المؤذية

عمران سلمان – الحرة – 6 فبراير 2019/

الهويات بطبيعتها مؤذية، لأنها تؤبد ما هو مؤقت وزائل وجزئي، في مقابل ما هو دائم ومستمر وشامل، ولأنها لا تترك أي مجال لقادم بعدها، فإنها تقطع الطريق على أية إمكانية أو فرصة للتغيير. لكننا للأسف لا نستطيع أن نفعل الكثير إزاء هذه الهويات. فهي تفعل فعلها في الوقت العصيب الذي يصبح فيه الإنسان كله معرض للزوال.

الهوية هي الملاذ الأخير

الإنسان يلتصق بعصبية الهوية لأنه يعتقد بأنها الملاذ الأخير في ظل غياب الدولة والقانون الذي يحميه. وهو يرى العصبيات الأخرى تتكثف أو تنزاح بحسب رياح الواقع السياسي، فلا يستطيع سوى استحضار عصبيته هو الآخر. يحدث ذلك في العالم العربي بعرضه وطوله.

وبعض الناس تستاء من التصاق الآخرين بعصبياتهم وهوياتهم، لكن الحقيقة أن الكل يفعل ذلك في ساعة الخطر وساعة الحاجة إلى المساعدة، بشكل أو بآخر.الإنسان يلتصق بعصبية الهوية لأنه يعتقد بأنها الملاذ الأخير في ظل غياب الدولة والقانون الذي يحميه

​​الحل المعقول للقضاء أو التخفيف من حدة العصبية والهويات هو الدولة المدنية الحديثة بوجهها العادل والشامل، ولكن هذه دونها خرط القتاد كما تقول العرب. والسبب أن مجتمعاتنا لم تعرف هذا النمط من الدولة.

لقد تعلم الناس عبر الزمن ومن واقع تجاربهم المرّة أن لا يأمنوا سوى لعصبياتهم وهوياتهم المحلية التي توفر لهم قدرا معقولا من الحماية في مواجهة تغول العصبيات والهويات الأخرى.

مناسبة هذا القول هو أن بعض الناس يستغربون كيف يلتف قطاع من المصريين حول الإخوان المسلمين أو يلتف قطاع واسع من الشيعة في لبنان حول حزب الله أو يلتف قطاع من السوريين حول التنظيمات الجهادية… إلخ.

الحقيقة أن الناس ليسوا مخيرين في هذا الأمر. ولو وضع أي إنسان من خارج الدائرة نفسه في مكانهم لربما فعل الشيء نفسه.

لا حصانة في الدول المتقدمة أيضا

ولا يقتصر الأمر على المنطقة العربية. ففي كل دول العالم، يوجد نوع من العصبيات والهويات وإن تفاوتت في تأثيرها ومظاهرها، بحسب درجة تطور تلك المجتمعات.

ففي المجتمعات المتقدمة ينقسم الناس في أزمان معينة إلى فريقين أو أكثر يؤيدون هذا السياسي أو ذاك، هذا الحزب أو ذاك، هذا الموقف أو ذاك. بل يذهب بهم الحماس إلى حد التعصب والتصرف بمنطق الأعداء والخصوم الذين يتمنون الشر لبعضهم البعض.

ولعل أبرز مثال على ذلك ما تمر به الولايات المتحدة حاليا، من حيث حالة الاستقطاب والتعصب بين أنصار الحزبين الديمقراطي والجمهوري. حيث لم يقتصر الأمر على الخلاف السياسي والموقف من بعض القضايا التي تميز عادة الحزبين. بل امتد الأمر إلى جميع مناحي الحياة. فلكل من أنصار الحزبين لغته السياسية الخاصة وقنواته التلفزيونية وإشاراته ورموزه وقضاياه المحببة، بل حتى المدن والولايات تتميز بهوية ساكنيها ونمط معيشتهم. هذا الأمر لم يكن موجودا قبل عقدين من الزمن مثلا.

طبعا حالة الاستقطاب الشديدة هذه تعقد بالطبع من عمل الحكومة والكونغرس وتجعل من الوصول إلى حلول وسط بالنسبة لأية قضية أمرا صعبا إن لم يكن مستعصيا.

السياسيون يشجعون الانقسامات

الأمر الملفت أن بعض المهاجرين العرب والجدد منهم تحديدا في الولايات المتحدة، أصبحوا يتماهون مع هذا الاستقطاب بصورة تبدو لي أحيانا غير مفهومة. فتأييد الإدارة الأميركية الحالية أو السابقة وما تفعله، أو معارضتها، يذهبان إلى حد التطرف.الحل المعقول للقضاء أو التخفيف من حدة العصبية والهويات هو الدولة المدنية الحديثة

​​فمثلا بالنسبة لموضوع السياسة تجاه المهاجرين القادمين من أميركا اللاتينية، والذي تتخذ الإدارة الحالية منه موقفا متشددا، وأحيانا غير مبرر خاصة بمقاييس العقيدة المسيحية التي يحلو لها التذكير بها في كل مناسبة.

هنا يقف بعض المهاجرين العرب موقفا متشددا أيضا لا يتناسب مع وضعهم، بوصفهم مهاجرين جدد، كافحوا من أجل الحصول على وضعهم الجديد. وقل الأمر نفسه بالنسبة لبعض القضايا الداخلية أو الخارجية التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

السياسيون في الكثير من الأحيان وفي العديد من المجتمعات يؤججون أو يتلاعبون بعواطف الجمهور، خدمة لأغراضهم الخاصة. وهم يشجعون أحيانا الانقسامات بين الناس لضمان بناء قواعد شعبية راسخة لهم. لكنهم في الأخير يساهمون في بناء العصبيات والهويات المتناحرة ويشجعون على الالتصاق بها. المشكلة أن هذه العصبيات لا تنتهي بمجرد مغادرة السياسيين مناصبهم، فثمة دائما من يبني عليها ويستثمر فيها. ويبدو أن هذا جزء من الطبيعة البشرية التي لا يسهل التخلص منه، وإن كانت معرفة حقيقته ربما تساعد على عقلنته أو على الأقل هذا ما يمكن للإنسان أن يأمله في نهاية المطاف.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *