عمران سلمان – الحرة – 10 مايو 2019/
من المثير أحيانا أن يرصد الإنسان ردود الفعل في العالم العربي على القضايا الخلافية أو الجدلية، حيث تظهر ردود الفعل هذه حقيقة الاتجاهات العامة في المنطقة، بصورة أدق مما تظهره استطلاعات الرأي على قلتها، وأكثر مما يروج له الإعلام من صور وانطباعات أقل ما يقال عنها أنها مبالغ فيها.
حملة شرسة غير مبررة
لقد أمضيت عدة ساعات على الإنترنت وأنا أتابع الهجمة الشرسة التي امتدت على مدى أشهر على مسلسل الحلاج الذي كان يعتزم تلفزيون أبوظبي بثه خلال شهر رمضان الحالي.
والحقيقة أن هذه الحملة التي أظهرت حجم انتشار أفكار التشدد والغلو والتكفير على نحو مخيف، شارك فيها دعاة سلفيون وإسلاميون متطرفون وناشطون يشاطرون تنظيمي داعش والقاعدة وغيرهما، نفس الأفكار والمعتقدات، ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:يقدم الحلاج نموذجا إنسانيا وروحانيا شاملا لفهم طبيعة الإنسان وعلاقته بالخالق
ـ أن الحلاج كافر وزنديق ومحتال ولا يجب الترويج له، ناهيك عن إنتاج مسلسل يحكي قصة حياته.
ـ إن الهدف من تلميع صورة الحلاج وتقديمها في شكل معاصر هي محاولة لإشاعة أفكاره ومعتقداته وبالتالي تخريب عقول الشباب وتضليلهم.
ـ إن الحلاج شخصية نبذها المتصوفة أنفسهم وهو يستحق المصير الذي واجهه.
ـ إن التاريخ الإسلامي حافل بأسماء شخصيات وعلماء وفقهاء فلماذا يجري التركيز على الحلاج؟
ـ إن الغرب ضالع في مؤامرة ضد الإسلام عبر دعم التصوف كبديل للإسلام في قراءته المتطرفة ويستشهدون في ذلك بدراسة لمعهد راند الأميركي.
طبعا لا حاجة لي للرد على هذه النقاط أو الدخول في مهاترات وجدل عقيم لا معنى له، ولكن الملاحظة الأساسية التي أمكنني رصدها هي حالة الخوف التي تلبست هؤلاء من مجرد فكرة المسلسل أو انتشار أفكار ومعتقدات الحلاج.
نموذج إنسان وروحاني شامل
بطبيعة الحال ينبغي للإنسان أن يتساءل، لماذا كل هذا الغضب على المسلسل وعلى شخصية الحلاج، ولم هذا التشدد تجاهه وهو قد مات وشبع موتا!
السر يكمن في أن أفكار الحلاج وجلال الدين الرومي وابن عربي وغيرهم من المتصوفة الإنسانيين، العابرين للأديان والطوائف والانتماءات الضيقة، لها جاذبية خاصة ولا سيما في عصرنا هذا. هذا العصر الذي شهدنا فيه أشكالا من التطرف والتوحش الذي كشفت عنه التنظيمات الإسلاموية، والعصر الذي انتشرت فيه أيضا الصراعات الدينية والطائفية على نحو بغيض ومتخلف. وهو العصر الذي اتضح فيه إفلاس وتهافت شعارات الجماعات الإسلامية وعجزها عن إنتاج شيء ذي قيمة.
كيف الخلاص من كل ذلك؟
يقدم الحلاج نموذجا إنسانيا وروحانيا شاملا لفهم طبيعة الإنسان وعلاقته بالخالق. وكما أوضحت في مقال سابق عنه على هذا الموقع، أن أفكار الحلاج تستوعب جميع الأديان والمعتقدات وأنه لا اختلاف بينها من حيث الجوهر، فهي كلها بمثابة فصول في كتاب واحد. أو كما يقول هو “.. إن الأديان هي ألقاب مختلفة وأسام متغايرة، والمقصود منها لا يتغير ولا يختلف”. كما أن الله ليس ملكا حصريا لأحد كي يحتكره أو يدافع عنه أو يقتل باسمه، وأن الإنسان حر في أن يعبد الله بالطريقة التي يشاؤها أو لا يعبده أيضا.
الدين تجربة فردية
هذا الفهم الذي يركز على المسؤولية الفردية والتجربة الشخصية في التعامل مع الدين، يحل إشكالية الانتماءات الدينية ويخرج الإنسان من جدل وصراعات الأديان والطوائف، كي يجعل تركيزه في النهاية منصبا على الله وحده بغض النظر عن التسمية التي يطلقها عليه البشر، وعلى إصلاح مجتمعه وتدبير أمور حياته وتكريس نفسه لخدمة الإنسانية جمعاء.اتضح في هذا العصر إفلاس وتهافت شعارات الجماعات الإسلامية وعجزها عن إنتاج شيء ذي قيمة
إن هذا بالطبع يتناقض مع الصورة التي يرسمها المتعصبون المسلمون (وباقي المتعصبين في الأديان الأخرى أيضا) للإنسان ودوره في هذه الحياة. هذه الصورة التي تريد أن يظل الإنسان أسيرا لمعارك لا تنتهي بين أتباع الأديان لإثبات أيها أفضل وأيها صحيح وأيها باطل وأيها أحق بالاتباع.. إلخ.
ولإدامة هذا النمط من التفكير لا بد من خلق أعداء وهميين يحاولون الانقضاض على هذا الدين والعمل على تخريبه، ليدخل الإنسان إثرها حالة من الصراع العبثي والذي لا ينتهي ضد خصوم مفترضين داخل المجتمع وخارجه.
هذا التصور هو الذي يسعى المتعصبون لإدامته، كي يظلوا هم في مواقعهم. ومن نافلة القول إنهم سوف يحاربون كل من يحاول تقويض منطقهم هذا أو مساعدة الناس على التحرر من قبضتهم، حتى وإن كان شخصية عاشت قبل أكثر من ألف عام مثل الحلاج.