عمران سلمان – الحرة – 13 سبتمبر 2019/
الأمم، مثل الأفراد، لا يمكن أن تتخلص من عللها وأزماتها وتمضي للأمام، ما لم تعرف أولا من هي، وأين تقف على وجه التحديد، وما لم تقم بعملية تشريح كاملة لجسدها الديني والثقافي وموروثها التاريخي، بدون تردد أو مواربة أو تحفظ.
الطائفية في العراق
في عام 2003 حينما خاضت الولايات المتحدة الحرب في العراق وأسقطت نظام صدام حسين، اتهمها كثير من العرب، بمن فيهم بعض العراقيين، بأنها من جلبت الطائفية للعراق. بل راح هؤلاء يؤكدون ويجزمون بأن العراق لم يكن يعرف قبلها الطائفية وأن الجميع كانوا يعيشون في وئام وسلام وتوافق!باستثناء قلة قليلة لا تكاد تذكر، فإن باقي المجتمعات العربية، منخرطة في الصراع الطائفي
طبعا هذه التأكيدات والاتهامات لا أساس لها من الصحة، لأنه حتى وإن كان للولايات المتحدة دور غير مقصود في إثارة التوتر الطائفي، فإنها لم تجلب الطائفية للعراق، وإنما هي فقط رفعت الغطاء عن القدر، الذي كان يموج بالطائفية، وكانت القوة مرة، والشعارات القومية واليسارية التخديرية مرة أخرى، هي التي أبقت ذلك القدر وما بداخله في حالة من الهدوء النسبي خلال معظم القرن الماضي.
أما الحقيقة فإن الشيعة والسنة كانوا على الدوام، قطبين في المجتمع العراقي، يتصارعان ويتعايشان، تحت مظلتي الإيرانيين والعثمانيين، مرة ينتصر هذا الطرف فيجلب جماعته للحكم في بغداد ومرة ذاك الطرف فيقوم بالشيء نفسه.
ملامح مرحلة جديدة
طبعا، بعد عام 2003 ومع انتشار الصراع الطائفي في كامل المنطقة العربية مثل النار في الهشيم، تلاشت الاتهامات للولايات المتحدة وغيرها، فقد انفتح المشهد على حقيقة كبيرة ومؤلمة وهي أن الطائفية مسألة عميقة الجذور في المجتمعات العربية، وربما أعمق حتى مما تصور كثير من الباحثين الغربيين، الذين درسوا هذه المنطقة وخدعتهم مظاهرها الخارجية. فلم يتنبؤوا مثلا بأن الصراع الطائفي يمكنه أن يتكفل بالعرب، بعضهم ببعض، ومن دون حاجة إلى محاولات التأليب أو الدفع السياسي والإعلامي من الخارج.
اليوم وحيثما أجلنا النظر، فثمة انقسام حاد في المنطقة، على مستوى الخطاب العام والمواقف السياسية ووسائل الإعلام والجماعات السياسية… إلخ، بل تعدى ذلك إلى العلاقات بين الأفراد والشعوب وحتى على مستوى المهن والتوظيف وما شابه ذلك.
وتوضح المواجهات الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل، لمن تابع وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من وسائل الإعلام، كيف توزع العرب بين مؤيد لضرب إسرائيل لمواقع حزب الله وبين مؤيد لضرب حزب الله أهدافا إسرائيلية، وبين ثالث اتخذ له شعارا يقول “اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين!”.
بالطبع لكل طرف من هؤلاء وجهة نظره وتبريراته للموقف الذي يتخذه، ولست هنا بصدد نقاش ذلك، فالمهم بالنسبة لي هو ملاحظة كيف تدحرجت المجتمعات العربية على الإيقاع الطائفي، حتى أصبح هذا الصراع هو المهيمن والطاغي على الكثير من التوجهات والمواقف السياسية، بل أكاد أقول إنه بدأ يرسم ملامح مرحلة بأكملها، ربما لا زلنا نعيش فصولها الأولية فحسب.
الفرقة الناجية
وهذا يعني أننا كعرب لدينا قصور في فهم طبيعة مجتمعاتنا وما هي أولوياتها ومدى تغلغل الموروث الديني والثقافي والطائفي في نفوسنا. وأن الصورة الذهنية التي نرسمها لأنفسنا عن أنفسنا، ليست في الواقع سوى صورة متخيلة، ولا صلة لها بالواقع الذي نعيشه.الحقيقة أن الشيعة والسنة كانوا على الدوام، قطبين في المجتمع العراقي
الأدهى من ذلك أن الكثيرين منا لم ينتبهوا إلى أننا في مطلع القرن الواحد والعشرين، سوف نرتد قبائل وجماعات، تتقاتل وتتنابز ليس من أجل صد غازي أو دفع معتدي، وإنما لإثبات أي طائفة هي الأحق بالحكم والسلطة والزعامة الدينية!
وباستثناء قلة قليلة لا تكاد تذكر، فإن باقي المجتمعات العربية، منخرطة في الصراع الطائفي، إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بصورة واعية أو غير واعية. بل إن تلك القلة القليلة التي نأت بنفسها، والتي يستغرب المرء كيف استطاعت أن تنجو بنفسها، تتعرض للهجوم من طرفي الرحى، إما بوصفها متنكرة لطائفتها وخروجها على الإجماع، أو بتغليب مصالحها السياسية والاقتصادية على مصالح الأمة والجماعة! وفي الحالتين فإنها تظل مدعوة للانخراط في حفلة “الجنون الطائفي”.