عمران سلمان – الحرة – 6 سبتمبر 2019/
“خاطبوا الناس على قدر عقولهم”، أو “حدثوا الناس بما يعرفون” ـ والمعرفة هنا تعني الإدراك وليس العلم بالشيء ـ، هي من الأقوال المأثورة التي ليس المقصود منها بالطبع التمييز، صعودا ونزولا، بين الأفضل أو الأسوأ من عقول الناس، ولكن المقصود منها هو مخاطبة الناس وفق حاجاتهم وما تميل إليهم قلوبهم وما يستقر في أنفسهم وما تدركه مخيلاتهم. بخلاف ذلك فإن الرسالة تتعطل والحديث يساء فهمه.
معيار للقياس وليس للقيمة
والواقع أن ثمة مستويات للتعامل في كل أمر من أمور الحياة تقريبا، فثمة مستويات للخطاب وللمعرفة وللفهم والتحليل والنظر.. إلخ. والإنسان ينتقل من مستوى لآخر بحسب وعيه وحاجاته وتجاربه.
لكن التعدد في المستويات لا يجلب معه تعددا في القيمة للإنسان. فليس ثمة درجة أولى ودرجة ثانية. وليس هناك مستوى أعلى وآخر أدنى، أفضل أو أسوء. التعدد في المستويات يجلب معه تعددا في الفهم والإدراك فحسب. وكل إنسان يفترض أنه يعيش في وئام في المستوى الذي هو عنده ما دام يعي ذلك. إن وجوده في ذلك المستوى في ذات اللحظة وفي ذات المكان، هو معيار للقياس وليس معيارا للقيمة.إن فهم الطبيعة البشرية يعتبر بحق من أصعب الأمور على الإنسان، لكن تجاهلها يعد من أخطرها
والإنسان يكون سعيدا أو في حالة شقاء ليس بسبب وجوده عند مستوى معين، ولكن بسبب إدراكه أو عدم إدراكه لما تنطوي عليه أهمية مراعاة هذه المستويات. فالإنسان الذي يخاطب الآخرين بخلاف ما يحتاجونه، في الغالب لن يجد آذانا صاغية، وسوف يتملكه الإحباط سريعا. وكذلك الساعي إلى التماهي مع مستويات أخرى، يجد نفسه حائرا وربما ضائعا، لا يلوي على شيء. وحين يعامل إنسان إنسانا آخر بخلاف مستواه، فهو يرتكب نوعين من الظلم، في حق نفسه وفي حق الآخر.
السياسيون لا يقولون الحقيقة
الشأن السياسي، ربما يعتبر الميدان الأبرز الذي تترجم فيه مقولة “خاطبوا الناس على قدر عقولهم”. فالسياسيون من جميع الأجناس والطبقات يحرصون على اتباع ذلك، وتنفيذه أحيانا بطريقة مثيرة للاهتمام.
ففي المجتمعات الديمقراطية يحرص كثير من المرشحين على الحديث مع ناخبيهم بما يتناسب مع مستوياتهم. إنهم لا يسعون إلى وعظهم أو نصحهم أو “قول الحقيقة” لهم، لكن الحديث معهم باللغة التي يفهمونها والتي تحرك لديهم المشاعر وتنتج ردود الأفعال.
ومدى إجادة المرشح لهذا الأمر، تعكس مدى حظوظه في الفوز من عدمها. إن الأمر هنا لا يتعلق بالغش أو الكذب عادة، وإنما بمدى اتقان فهم المرشح للطبيعة البشرية.
وكثير من السياسيين في مجتمعاتنا العربية يفعلون الشيء نفسه أيضا وإن بصورة أقل تكلفا وتعقيدا. فهم ليسوا مضطرين لكسب أصوات الناخبين، لأنه في الغالب ليست هناك انتخابات حقيقية. وحتى أولئك الذين يغامرون بخوض مثل هذه الانتخابات، فإنهم يعلمون في قرارة أنفسهم بأن الأشياء التي يعدون بها لن يتمكنوا من تنفيذها.
وفي مجتمعاتنا أيضا يستغل بعض السياسيين حاجة الإنسان الطبيعية للأمن والاستقرار والنظام، وهم يستخدمونها للمقايضة من أجل استمرار بقائهم في مناصبهم والحفاظ على نفوذهم.
إن فهم الطبيعة البشرية يعتبر بحق من أصعب الأمور على الإنسان، لكن تجاهلها يعد من أخطرها.
الطائفية ذخيرة الحكومات
لقد كان لافتا على نحو خاص في السنوات الأخيرة كيف أن الطائفية في العالم العربي بلغت حدا قسّمت فيه الناس إلى معسكرات متناحرة. وأصبحت مثل “الشيفرة” التي ما أن يسمعها الإنسان حتى تتغير نبرته وحركته وطريقة نظرته للأمور.
فجميع القضايا، ما صغر منها وما كبر، قلت أهميته أو زادت، لا بد أن يوضع على مقاس الطائفية، وقد أوجد هذا الأمر للسياسيين والحكومات ذخيرة لا تنضب للسيطرة على الناس وتوجيههم. فالأحداث يتم تفسيرها وفق المنطق الطائفي وكذلك ما يصدر عن الأشخاص وما تقوم به الدول والجماعات. ومعرفة “من هو مع” و”من هو ضد” أو “من هو صديق” و”من هو عدو”، تتم أيضا وفق التوجه الطائفي، من دون وضع اعتبار لأي عامل أو تأثير آخر.الطائفة اليوم باتت بالنسبة للكثيرين أداة وجودية، يذهب إليها الناس طائعين وخاضعين
كان شيء من هذا التقسيم سائدا فيما مضى في المنطقة العربية عندما كانت النخب، ومعها جماهيرها، تتحرك على إيقاع أفكار القومية والاشتراكية ثم الإسلام السياسي، لكن التطور الجديد بالنسبة للموضوع الطائفي أنه أخذ الأمور إلى ناحية أبعد من ذلك بكثير.
فالطائفة اليوم باتت بالنسبة للكثيرين، ليست مجرد أداة للتعريف أو الانتماء فحسب، وإنما أداة وجودية، يذهب إليها الناس طائعين وخاضعين، في السر أو العلن. وفي مثل هذا المناخ ينتعش السياسي ويضع رجلا على رجل وهو يقول منتشيا لمعارضيه “خاطبوا الناس على قدر عقولهم”.