عمران سلمان – الحرة – 20 سبتمبر 2019/
ما طرحه الزميل منصور الحاج في مقاله حملة “سعداء بدون الله” وأهمية المجاهرة بالإلحاد” أعتقد أنه مهم وجاد، وهو بحاجة إلى إغناء وإثراء وكذلك وضعه في سياقه العام والأشمل، كي لا يبدو أن المسألة مقتصرة على دين معين أو خاصة بأتباع هذا الدين، دون غيره. لكن يكفي الزميل منصور أنه أثار هذا الموضوع وسلط الضوء على هذه القضية المهمة والحساسة.
الدين مسألة خاصة!
الخروج من الإسلام والإلحاد، رغم ما بينهما من مشتركات، إلا أنهما مسألتان مختلفتان إلى حد ما. فالخروج من المؤسسات الدينية الرسمية أو التابعة للأديان، وكذلك الإلحاد ليس أمرا جديدا. لقد حدث في الماضي وهو يحدث الآن وسوف يحدث في المستقبل أيضا. كل يوم يقرر أشخاص الخروج من هذا الدين أو ذاك، مثلما هناك أناس يدخلون فيه أيضا. بعضهم يتسببون في إثارة الضجيج وبعضهم بصمت.
بعضهم مجبرون على ذلك وآخرون بملء اختيارهم وإرادتهم. بعضهم يدفعون أثمانا باهظة نتيجة قرارهم وبعضهم يستفيدون من هذا القرار.
لكن الخروج من الدين شيء والإلحاد بالله شيء آخر. ولتوضيح ذلك من المهم التوقف عند مجموعة من المسائل.توجد صعوبة في تقبل فكرة أن الله حب محض وجمال محض وخير محض
في البداية، الدين ليس هو نفسه المؤسسة الدينية الناطقة باسمه. فالدين مسألة اعتقادية وخاصة بضمير الإنسان وهي علاقة لا تخرج، ولا يجب أن تخرج، عن نطاق الاعتقاد بين الإنسان وما يؤمن به. بمعنى أنه ليس للآخرين علاقة بهذا الأمر، من قريب أو بعيد.
بينما المؤسسة الدينية، والتي تقدم نفسها على أنها المتحدث باسم الدين أو الممثل له، هي عادة التي تكون في الواجهة، وهي التي تمارس أمور تطبيق الدين (حسب فهمها) والعمل على معاقبة المخالفين، وهي التي تسن القوانين والتشريعات الدينية وتصدر الفتاوى وما شابه.
بمعنى آخر، فإن ما نطلق عليه اليوم “دينا معينا” إنما هو في حقيقة الأمر، المؤسسة الدينية الرسمية التي تمثل ذلك الدين، أكثر مما هو الدين نفسه. وهذا التماهي بين الإثنين حدث عبر التاريخ، بشكل مقصود أحيانا، وأحيانا غير مقصود. وهو وجد في الماضي، ومستمر اليوم أيضا، لتضافر مصالح سياسية واقتصادية واجتماعية معينة.
المشكلة في المؤسسة الدينية!
في الغالب الأعم فإن قرار الخروج من دين معين، هو في جوهره تمرد على المؤسسة الدينية، وخروج من تحت عباءتها.
لكن لماذا يحدث ذلك؟
ببساطة لأن المؤسسات الدينية الرسمية بطبيعتها سلطوية. إنها تعبر عن “الأنا” الجماعية للبشر الذين ينضوون تحتها، ومثل كل المؤسسات فهي تفرض بصورة قسرية، وأحيانا تعسفية، طريقة معينة في التفكير والسلوك على باقي البشر، ما يجعل بعضهم يتمردون عليها.
والإلحاد يمكن فهمه في هذا السياق أيضا أنه تمرد على النموذج أو الصورة الذهنية لله أو الخالق التي تقدمها المؤسسة الدينية، وليس تمردا على الله ذاته.
فهذه الصورة المقدمة ليست هي الله نفسه، وإنما التفسير والفهم البشري لله. ولذلك عندما تتحدث المؤسسة الدينية الإسلامية أو المسيحية أو اليهودية أو غيرها عن الله، هي لا تتحدث في حقيقة الأمر عن الله (الذي لا تعرفه على أية حال، ولا تمكن معرفته في الأصل) وإنما عن الصورة التي كونتها هي لله في الذهنية العامة.
في هذا الإطار، هي تحتكر بطبيعة الحال هذه الصورة لنفسها وتعتبرها خاصة بها، وتستميت في الدفاع عنها، والحيلولة دون أن تصاب بأي خدش أو انتقاد أو ما شابه ذلك. لهذا فهي تهاجم وتقتل وترجم… إلخ، كل من يتحدث عن هذه الصورة، بطريقة لا تتسق مع فهمها لها.
بل إن المؤسسة الدينية تصور لنفسها ولأتباعها ولغيرهم، أنها تملك الحق الحصري (أو الوكالة الحصرية) في التحدث باسم الله، وتطبيق ما تعتبره أوامره ونواهيه.
هذه الصورة المشوهة لله، التي تقدمها المؤسسة الدينية، ليست بالضرورة مقصودة أو متعمدة، أحيانا تكون قد ورثتها عمن سبقوها، وأحيانا ببساطة يكون هذا ما وصل إليه علمها وفهمها. لكنه بالطبع كافيا لتنفير بعض الناس من هذه الصورة، وبالتالي دفعهم، سرا وعلانية، للخروج عليها.
مرحلة “الطفولة” البشرية!
للأسف فإنه في هذه المرحلة من التطور البشري التي نعيشها (مرحلة الطفولة) من الصعوبة أن يقبل عقل الإنسان أو نفسه، صورة مختلفة لله عن تلك الموجودة لدى معظم الأديان، وهي الصورة المستمدة من النموذج البشري، القائم على العقاب والثواب والجنة والنار، والتقريب والتبعيد وما شابه ذلك.المؤسسة الدينية الرسمية إلى زوال بسبب انتفاء الحاجة إليها
وبالتالي توجد صعوبة في تقبل فكرة أن الله حب محض وجمال محض وخير محض ورحمة محضة ورعاية محضة، وحيادية محضة، لا تعرف نقيضها. هذه الصورة لا يمكن أن ينفر منها الإنسان، ولا يحتاج إلى أن يلحد بها، وهو حتى إن فعل، فلا توجد مشكلة، فليس هناك “ثعبان أقرع” ينتظره في القبر أو “أفران غاز” معدة لحرقه، ثم إعادة حرقه من جديد!
الواقع أنه في تراثنا يوجد ما يدعم هذه النظرة للحرية الدينية. فالصوفية يعتبرون أن عدد الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق. أي أن الدين فردي بطبيعته، ولكل إنسان دينه الخاص به. وهو حر إن قرر البقاء فيه أو الخروج منه أو تغييره.
كذلك من الأقوال المأثورة “إن قوما عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا، فتلك عبادة الأحرار”.
ويوجد ما يكفي من المؤشرات بأن مستقبل البشر عموما، وليس المسلمين فقط، يسير في اتجاه الاعتراف بفردية الدين وحق الإنسان الطبيعي والأصيل في اختيار طريقه إلى الله، وأن المؤسسة الدينية الرسمية إلى زوال بسبب انتفاء الحاجة إليها.