عمران سلمان – الحرة – 11 أكتوبر 2019/
بالتأكيد لم يكن هناك داع لمقتل كل هذا العدد الكبير من المتظاهرين في العراق، ولم تكن هناك حاجة أصلا لاستخدام العنف المفرط ضد المحتجين العزل. فالتظاهرات التي خرجت من الواضح أنها لم تكن سياسية أو تسعى لأغراض سياسية. محركها الأساسي هو الوضع الاقتصادي والمعيشي وتردي الخدمات والفساد والبطالة. وهو أمر لا يختلف عليه اثنان من العراقيين، سواء داخل الحكومة أو خارجها.
الفساد المزمن
والواقع أن مسألة الفساد وتردي الخدمات، ظلت ملازمة للواقع العراقي منذ الحرب التي أطاحت بنظام صدام حسين الديكتاتوري. وكانت مثار استغراب مستمر للمراقبين داخل العراق وخارجه، ناهيك عن الناس العاديين، وهو كيف يمكن فهم أن دولة نفطية، تتمتع بكل الثروات الطبيعية والبشرية ومع ذلك تعجز عن توفير الكهرباء أو الخدمات الأساسية للمواطنين؟ أين يكمن الخلل وكيف يمكن تفسير هذا الأمر؟
هناك من يرجع الوضع الحالي إلى الفساد وهناك من يرجعه إلى طبيعة النظام السياسي الذي تشكل بعد الحرب والذي قام على المحاصصات الطائفية.الإصلاح الذي يدفع العراقيون ثمنه غاليا، لن يأتي بالتخلي عن العملية الديمقراطية والانتخابات والحريات العامة
ولكن العراق شهد أربعة انتخابات منذ ذلك الوقت، تغيرت خلالها عدة حكومات والعديد من المسؤولين، وكانت هناك باستمرار فرصة أمام الناخبين لانتخاب شخصيات تتمتع بالنزاهة والمسؤولية، ولعل آخرها الانتخابات التي جرت العام الماضي وأسفرت عن تغيير في بعض التحالفات والوجوه.
لذلك فالسؤال هو: ما الذي يمنع العراقيين من تغيير واقعهم بالطرق الديمقراطية، طالما أن هذه الطرق متاحة؟ فالعراق لا يعاني من نظام ديكتاتوري أو استبدادي، كما لا يعاني من خلل في التمثيل الطائفي أو القومي أو الديني. فالنظام الانتخابي القائم يعكس إلى حد كبير نسب التمثيل الفعلية لمختلف الطوائف والأديان والقوميات.
عقلية تقاسم الغنائم
يمكن استشفاف جانب من الإجابة (وليس كلها) على هذه التساؤلات من الشعارات التي رفعها المتظاهرون أنفسهم وكذلك قيامهم بإحراق عدد من المقار الحزبية والسياسية.
من الواضح أن ثمة تقاليد ضارة وخطيرة وجدت طريقها للحياة السياسية العراقية بعد الحرب. ولعل أهمها هو سيطرة عقلية تقاسم الغنائم، والنظر إلى الدولة على أنها حقلا مشاعا.
هذه العقلية جعلت الحياة السياسية في العراق عند مستوى منخفض، وتدور في معظمها حول الانشغال بتوزيع وتقاسم المناصب، وليس اجتراح مشاريع إعمارية ونهضوية.
ومن مظاهر ذلك أن وقتا كبيرا يهدر عادة بعد كل انتخابات في تشكيل الحكومة وتوزيع الحصص والمناصب بين التيارات والتحالفات والأحزاب المختلفة. وتعتبر هذه التحالفات أنها نجحت في إنجاز مهمتها، بمجرد تأمينها لحالة من الرضى والقبول لدى مختلف الفرقاء عما حصل عليه كل منهم من الغنيمة.
وبطبيعة الحال فإن الحافز والحماس لحل مشاكل المواطنين أو إصلاح الأوضاع الاقتصادية والخدمية المتردية، يظل ضعيفا ويتحول إلى تمارين لفظية ومزايدات من قبل غالبية النواب والمسؤولين.
الجمع بين الدين والسياسة
من التقاليد الضارة أيضا هذا التداخل المعقد والمرضي بين الديني والسياسي. فكون قسم كبير من العراقيين محافظ من الناحية الدينية، لا يعني أن يحضر الدين في الحياة السياسية أو يكون عاملا مرجحا عندما يتعلق الأمر بإدارة الدولة وتسيير شؤن الاقتصاد وتمثيل المواطنين.
لقد جر السياسيون الدين إلى ساحة تخدم مصالحهم بحيث استخدموه غطاء لتبرير وشرعنة عقلية الغنائم. فالمحاصصات ينظر لها على أنها امتداد للموقف الديني أو انتصارا لهذا الرأي الفقهي أو ذاك.جرب العراقيون النظام الديكتاتوري وشاهدوا بأنفسهم ما جره عليهم من كوارث وويلات
وفي ظل هذا الواقع عاث البعض فسادا وتملصوا من المحاسبة والمسؤولية، وأمنوا ظهورهم بالاتكاء على المؤسسة الدينية.
إن المشكلة لا تكمن في وجود المؤسسة الدينية نفسها، ولا في وجود السياسيين أنفسهم في حد ذاته، ولكنها في إقحام الدين وتسخيره للأغراض السياسية. وفي بلد مثل العراق أو غيره من البلدان العربية، فإن التأسيس لحياة سياسية حقيقية وفعالة، يبدو صعبا في ظل لجوء مختلف الأطراف إلى الدين والخطاب الديني.
المزيد من الديمقراطية
ولذلك، قد يكون الحراك السياسي الحالي في العراق فرصة لوضع هذه القضية على بساط البحث وبصورة تضع حدا في المستقبل لأي محاولات لاستغلال المشاعر الدينية أو عقائد المتدنيين من أجل الكسب السياسي. وبحيث يحظر على أي شخص الجمع بين المنصب الديني والسياسي أو استخدام مكانته الدينية في العمل السياسي.
يبقى القول إن الإصلاح الذي يدفع العراقيون ثمنه اليوم غاليا، لن يأتي بالتخلي عن العملية الديمقراطية والانتخابات والحريات العامة، وإنما بالمزيد منها وتعميقها من خلال رفع الوعي وتغيير ثقافة الغنائم السائدة وترسيخ حكم القانون.
لقد جرب العراقيون النظام الديكتاتوري، على مدى عقود، وشاهدوا بأنفسهم ما جره عليهم من كوارث وويلات، والعودة إليه يعتبر انجرارا إلى الجانب المظلم من تاريخ البلاد. ولا أتصور أن أي عراقي يرغب في ذلك.