عمران سلمان – الحرة – 18 أكتوبر 2019/
أميركا ليست شرطي العالم ولا ينبغي أن تكون. في هذه المسألة ينبغي الاتفاق مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب وفي مجمل سياساته الهادفة إلى تصفير المشاركة الأميركية في حروب المنطقة. لكن قرار ترامب الضمني بتسليم أكراد سوريا لآلة الحرب التركية ومرتزقتها، لا يندرج في إطار الكف عن لعب دور الشرطي، وإنما هو “خيانة فاضحة” للأكراد، كما يقول المدون الأميركي الإنجيلي المحافظ إريك إريكسون.
وجود عسكري محدود
لا يغير من هذه الحقيقة دخول الجيش السوري على الخط لمساعدة الأكراد في التصدي للهجوم التركي بعد أن وافقوا على تسليمه المناطق التي يسيطرون عليها بموجب اتفاق رعته روسيا. الواقع أن هذا الأمر كان أحد المآلات الطبيعية للخطوة الأميركية.
هذه الخطوة التي قد تتجاوزها الأحداث في سوريا بعد قليل، كانت ولا تزال تسبب الحيرة لدى الكثير من المتابعين في واشنطن وخارجها، لعدة أسباب.الحروب التي خيضت خلال الـ 20 أو 30 سنة الأخيرة في المنطقة لم تنتج أي حالة استقرار مستدامة
فالوجود العسكري الأميركي في شمال شرقي سوريا، رغم التعقيدات القانونية والسياسية المحيطة به، لم يكن وجودا كبيرا من الناحية العددية وتكلفته المالية بالتالي لم تكن كبيرة أيضا، والأهم أن هذا الوجود ليس منخرطا في حالة حرب، باستثناء مع فلول تنظيم “داعش”.
وبالتالي فإن سحب هذه القوات لا يمكن أن يكون مبررا للخروج من حرب هي غير موجودة أصلا. أهمية هذا الوجود هي رمزية بالدرجة الأولى، لجهة لجم النزعات العدوانية التركية، ومن جهة أخرى تأكيد الالتزام الأميركي بتقديم الدعم للمقاتلين الأكراد الذين قدموا التضحيات الجسام لهزيمة تنظيم “داعش”، ولا زالوا يتحملون العبء الأكبر في منعه من إعادة تنظيم صفوفه، فضلا عن احتجاز الآلاف من أسراه.
أطماع أردوغان
الأمر الثاني، هو أن قوات سوريا الديمقراطية والمسلحين الأكراد عموما في هذه المنطقة لم يكونوا منخرطين بأي شكل في عمليات مسلحة موجهة ضد الدولة التركية. فطوال الأزمة السورية لم يطلق هؤلاء رصاصة واحدة على الجانب التركي، وبالتالي فإن الدعاية التركية بشأن تهديد الأكراد لأمنها القومي ووجود ممر إرهابي وما شابهها من كيليشيهات، هي مجرد ذريعة لخدمة أغراض استعمارية لدى تركيا أردوغان في السيطرة على الأرض وأطماع اقتصادية في نفط سوريا، كما أوضحت في مقال سابق.
إن أردوغان يراهن بواسطة القوة على إمكانية إفراغ هذه المنطقة من سكانها عبر إحداث تغيير ديمغرافي، وجلب مرتزقته من السوريين وغيرهم لإدارتها نيابة عنه. لكن محاولاته هذه لن يكتب لها النجاح، لأسباب ليست فقط متعلقة بالتعقيدات العسكرية التي سوف يواجهها، وإنما أيضا لأن إدامة وضع شاذ كهذا سوف يستلزم وجودا تركيا نشطا ومستمرا في المنطقة، وهو أمر يجعل الأتراك دولة محتلة بموجب القانون الدولي ما يستوجب قتالها.
ضرر يتعذر إصلاحه
الأمر الثالث، أن الانسحاب الأميركي من “الحروب التي لا نهاية لها”، وإن كان قرارا صائبا في جوهره، فإنه لا يعني أن الولايات المتحدة تستطيع أن تنتقل إلى كوكب آخر. فهذه الحروب والنزاعات وتداعياتها تؤثر بشكل أو بآخر على جميع الدول، صغيرها وكبيرها. ومن ثم فإنه ليس ممكنا من الناحية العملية التخلي كليا عن أي دور في هذه النزاعات.
فالفراغ الذي سوف تخلفه الولايات المتحدة في سوريا سوف يتم ملؤه بصورة أو بأخرى، إن لم يكن بواسطة الأتراك فالحكومة السورية أو الروس أو الإيرانيين.أردوغان يراهن بواسطة القوة على إمكانية إفراغ هذه المنطقة من سكانها عبر إحداث تغيير ديمغرافي
لكن الرسالة الأهم التي يبعثها هي أنه من الصعب بعد اليوم الوثوق في الولايات المتحدة، كحليف عسكري واستراتيجي.
فالحالة الكردية كانت تجربة نموذجية، يستطيع من شاء أن يبني عليها. وهي على هذا النحو أوقعت ضررا يتعذر إصلاحه في المستقبل القريب فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط وفي غيره من المناطق.
الحروب موضة قديمة
غير ذلك، فلا جدال في أن التدخل الأميركي النشط في حروب الشرق الأوسط ونزاعاته، لم يجلب الاستقرار للمنطقة ولم يحقق المنفعة للولايات المتحدة، كما يقول الرئيس ترامب. ربما أفاد هذا التدخل بعض الحلفاء هنا وهناك، وربما أرضى غرور بعضهم، لكنه كان على الدوام مكلفا من الناحيتين الاقتصادية والسياسية. فضلا عن الآثار الاستراتيجية المترتبة عليه.
لنتذكر أن الحروب التي خيضت خلال الـ 20 أو 30 سنة الأخيرة في المنطقة لم تنتج أي حالة استقرار مستدامة. وهي إن استطاعت أن تحقق بعض الأهداف هنا وهناك، إلا أنها تركت وراءها أوضاعا هشة وذات قابلية للتأزم باستمرار. والسبب هو أن الحروب يمكنها أن تهزم الجيوش وتدمر القوة العسكرية، ولكنها لا تستطيع أن تبني الأوطان أو تحل الأزمات السياسية المعقدة.