في أسباب الاحتجاجات

عمران سلمان – الحرة – 25 أكتوبر 2019/

الاحتجاجات الشعبية العارمة في كل من العراق ولبنان والتململ في دول عربية أخرى، رغم أنها تأتي على خلفية المصاعب الاقتصادية وتردي الخدمات واستشراء الفساد، إلا أنها في جوهرها ثورة على الظلم والتهميش وغياب المساواة في الفرص. وهي تعطي لمحة عن نوعية الحراك السياسي الذي ينتظر المنطقة العربية في السنوات والعقود القادمة.

أزمات بنيوية

السياسيون والمتنفذون كعادتهم يحاولون البحث عن أسباب هذه التحركات في المكان الخطأ، فيلجأ بعضهم إلى نظرية المؤامرة وآخرون إلى محاولة التهوين من شأن هذه التحركات، والبعض يتصور نفسه فوق النقد أو المحاسبة. لكن ذلك لن يجدي فتيلا، كما يقال.

الواقع أن ما يحدث أو سيحدث ليس هو بالأمر المفاجئ تماما. جميع التقارير الاقتصادية التي صدرت عن المنطقة العربية خلال العقود الماضية تنبأت بهذا الواقع أو بشيء مشابه له.القواعد تفصّل على مقاس الحاكمين والمتنفذين والمحيطين حولهم​

فالاقتصادات العربية بصورة عامة تعاني من أزمات بنيوية. فليس هناك إنتاج ذي مردود اقتصادي حقيقي باستثناء النفط، بينما السياحة واقتصاد الخدمات يتعثران بسبب البيروقراطية وضعف البنى التحتية وعدم الاستقرار السياسي.

السكان يزداد عددهم بصورة مضطردة، وغالبيتهم من الشباب، والموارد الطبيعية من مياه وغيرها محدودة، والمساعدات الخارجية التي كانت تعمل في السابق بمثابة مسكنات وقتية، آخذت بالتضاؤل والنضوب.

ويضاف إلى ذلك كله جمود سياسي، يغذي الفوضى وانعدام القانون ويسمح للفساد بالتفشي والتغلغل في الدولة والمجتمع.

هذه كلها وصفات لانفجارات مجتمعية قادمة.

احترام قواعد اللعبة

المشكلة هي أن الناس يتطلعون إلى الحكومات لحل هذه المشاكل، والحكومات بدورها تتطلع إلى الخارج لمساعدتها، والخارج يطالب بإصلاحات جذرية، يقع عبئها في الغالب على عاتق المواطنين.

ويخيل للإنسان بأننا ندور في حلقة مفرغة، لكن الحقيقة هي أنه فقط يراد لنا أن ندور في هذه الحلقة بينما باب الخروج مفتوح.

في الاقتصاد يوجد تعبير دال وهو “level the playing field” ومعناها المختصر هو خلق وضع يتمتع فيه الجميع بنفس الفرص على نحو متساو. وهو ما يعيدنا من جديد إلى حكم القانون. أحد المشاكل الكبرى في مجتمعاتنا العربية هي غياب حكم القانون. بمعنى أنه لا يوجد هذا الميدان الذي يخضع فيه الجميع إلى نفس قواعد اللعبة وتطبق فيه الشروط نفسها على جميع اللاعبين.

فالقواعد تفصّل على مقاس الحاكمين والمتنفذين والمحيطين حولهم. وحتى عامة الناس فإنهم يقسمون بحسب الولاء والتبعية وما شابه.

المشكلة ليست في الضرائب

في الأوضاع العادية التي كانت سائدة سابقا، لم يكن معظم الناس يشعرون بحدة هذا الظلم، أو بالأحرى كانوا قادرين على التعايش معه، لكن مع تردي الأوضاع وتضاؤل الفرص الاقتصادية، يتغول المتنفذون ويزدادون شراسة ويتصارعون على سرقة آخر فلس في جيب المواطن.. سواء على هيئة ضرائب أو رسوم جديدة أو رفع اسعار السلع الضرورية وما شابه.

الضرائب في حد ذاتها ليست مشكلة وكذلك الرسوم. فهي موجودة في جميع البلدان وهي ضرورية لخزينة الدولة. والناس تتكيف مع الوضع الجديد تدريجيا.

المشكلة هي أنه في ظل غياب العدالة وتكافؤ الفرص وتغيير قواعد اللعبة باستمرار، وبصورة اعتباطية أحيانا، لتناسب مصالح المتنفذين، فإن هذه الضرائب تبدو بمثابة سرقة واحتيال، وهي كذلك. لهذا من الطبيعي أن يعاملها الناس على هذا الأساس ويثورون عليها.

والواقع أن معظم الشباب في المجتمعات العربية لا يطالبون بأكثر من احترام قواعد اللعبة الاقتصادية والسياسية ومنح فرص متساوية للجميع، وهم مستعدون أن يتدبروا أمورهم بأنفسهم، يتعلمون ويتدربون ويدرسون، من أجل تحسين ظروف معيشتهم.

التجربة التونسية نموذجا

هذا الأقل ما أظهره الشباب التونسي في الانتخابات الأخيرة.. فهم لم يكتفوا فقط بالتخلي عن حالة السلبية واليأس من المشاركة في الانتخابات، وإنما خرجوا للتصويت والتطوع بكثافة بمجرد أن سمعوا صوتا يؤمن بحكم القانون ويقدر المساواة والعدالة، ويؤمن بالاستثمار في الشباب.الاقتصادات العربية بصورة عامة تعاني من أزمات بنيوية

لذلك لم يكن من باب المصادفة أن يحظى الرئيس قيس سعيّد بكل هذا التأييد من جانب الشباب، الذين يقومون اليوم بمختلف المبادرات الإيجابية من تلقاء أنفسهم، مثل حملة النظافة الوطنية التي جرت تحت شعار “نحبو بلادنا نظيفة”.

هذه المبادرة وغيرها هي محاولة من الشباب لإثبات أنهم مستعدون لتحمل المسؤولية، وهم يتفهمون حجم المشاكل المحيطة ببلادهم وخاصة على الصعيد الاقتصادي، وأن حلها لن يتم بين عشية وضحاها، لكن المهم هو أن يكون هناك توزيع عادل ومتساو للمنافع والمغارم في المجتمع، وأن يتم ضمان تطبيق القانون على الجميع من دون محاباة لأحد. إذا حدث ذلك فإن معظم المشاكل الأخرى يمكن حلها، والمنطقة العربية في ذلك ليست استثناء عن باقي دول العالم.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *