عمران سلمان – الحرة – 1 نوفمبر 2019/
مقتل زعيم تنظيم “داعش” أبو بكر البغدادي، بالشكل الذي تم فيه، ومن قبله بن لادن والزرقاوي وغيرهم، هو تذكرة بأن التنظيمات الإرهابية مهما بالغت في الإجرام وتفننت في أشكال الدعاية والتحشيد، فإن مصيرها في نهاية المطاف هو السقوط والتدحرج نحو الهاوية. لكن هذا السقوط يشكل من جانب آخر فرصة لمجتمعاتنا لبحث أعمق في هذه الظاهرة والاستنتاجات التي يمكن الخروج بها.
مشاريع لا مستقبل لها
بالطبع لا يعني القضاء على البغدادي وقياداته نهاية “داعش” نفسه، أو نهاية الإرهاب باسم الدين، ولكنه يعني انتهاء حقبة شهدت أسوء ما يمكن أن يتفتق عنه العقل البشري من إجرام حتى الآن. وأقول حتى الآن، لأنه يمكن لتنظيم إرهابي جديد أن يطل على الساحة، من بين رماد القرون الوسطى، ويزيد ويتفوق في إجرامه وإرهابه على “داعش” و”القاعدة”.
إن سقوط التنظيمات الإرهابية، وإن كان يحدث مباشرة بسبب مواجهة الأجهزة الأمنية والعسكرية لها، إلا أن الحقيقة الأبعد هي أن مشاريع هذه التنظيمات لم يكن لها مستقبل، وهي غير قابلة للعيش في هذا العصر.يتوق الكثيرون، وخاصة في المجتمعات المختلطة طائفيا ودينيا، إلى التخلص من الطائفية
لنتخيل لو تمكنت الدولة التي أعلن عنها “داعش” في العراق وسوريا من الصمود حتى الآن، فكيف ستتدبر أمرها من دون غزو أو نهب، وكيف ستتمكن من التعايش مع محيطها، أو مع العالم. إنها ستسير حتما إلى الصدام والقتال، وسوف يؤذن ذلك بنهايتها عاجلا أو آجلا.
هذا يعني أن مشاريع هذه التنظيمات بمختلف تلاوينها، ليست مشاريع لبناء دول أو تطوير مجتمعات مهما كانت الزخارف التي تستخدمها، ولكنها مشاريع تحركها الغرائز البدائية والرغبة في السيطرة على البشر وحيازة الثروة، حالها في ذلك حال اللصوص الذين يسطون على المنازل أو المحلات، ولكنهم يعلمون بأنهم سوف يقعون في قبضة رجال الشرطة آجلا أو عاجلا.
المسكوت عنه
لكن مكمن الخطورة في هذه التنظيمات، والمعاناة التي تجلبها للبشرية، من اللحظة التي تطل فيها على الحياة إلى حين القضاء عليها، إنما يكمن في العقائد الفاسدة التي تستند عليها. وهي عقائد تتماهى ظاهرا، مع عقائد غالبية المسلمين، لكنها في جوهرها منبتّة الصلة عنها.
إنها تشتغل في ذلك الحيز المسكوت عنه في وعي كل عربي ومسلم عن شكل الدولة التي يريد أن يحيى فيها، والموقف من التراث والآخر وأين يصطف حينما يتعلق الأمر بالانتماء المذهبي أو الديني أو القومي.
ولأن هذه القضايا لا يجري الحديث عنها عادة إلا همسا أو لمزا، ولم يتم وضعها على طاولة البحث والنقاش الحر والجاد والعلني حتى الآن، فإنها تظل قضايا صالحة يمكن توظيفها من قبل جميع الطامحين إلى السيطرة وسواء كانوا من التنظيمات الإرهابية أو الأنظمة السياسية وغيرها.
ويمكننا أن نرى كيف أن الصراع المذهبي، على سبيل المثال، قد برز بصورة كبيرة في الأزمات الحالية التي تجري في أكثر من بلد عربي، رغم أن الأساس في هذه الأزمات ليس طائفيا، والخلاف يدور في الغالب حول قضايا سياسية واقتصادية ومعيشية تهم السواد الأعظم من المواطنين.
الخروج من الدوامة
هذا يدفعنا إلى القول إن القضاء على تنظيم “داعش”، وإن كان فيه قضاء على آلة من آلات الموت والدمار، إلا أنه يجب أن يكون فرصة لهدف أكبر وهو أن يتمكن المزيد من العرب والمسلمين من البدء في إجراء نقاش حر وهادف حول القضايا المسكوت عنها.
فهذا النقاش هو الذي سوف يساعد الأجيال الحالية والمقبلة على التحرر من الدوران في نفس الحلقة المفرغة التي ندور فيها اليوم. بل يجعل التحركات المطلبية والسياسية المختلفة الذي تشهدها أكثر من ساحة عربية ذات مغزى وتصل إلى نتائج عملية.مكمن الخطورة في هذه التنظيمات يكمن في العقائد الفاسدة التي تستند عليها
بعبارة أخرى، فإن أي حراك سياسي قد ينجح في رفع الغطاء عن الفساد والتجاوزات والعصبيات الطائفية والقبلية وما شابهها، لكنه بمفرده لا يمكنه أن يغير من تركيبة المجتمع، التي سوف تظل مرهونة لهذه العصبيات، بشكل أو بآخر، ما لم يتم في الوقت نفسه إجراء حوارات مجتمعية معمقة حول هذه القضايا، باتجاه مقاربة تعلي من الشأن المدني والمواطنة الجامعة.
يتوق الكثيرون، وخاصة في المجتمعات المختلطة طائفيا ودينيا، إلى التخلص من الطائفية، وهم محقون في ذلك، ولكن الطوائف لن تزول، والانتماء الطائفي لن يزول، ولكن المطلوب والممكن هو تحويل هذا الانتماء إلى قيمة إضافية إيجابية، بدلا من أن يكون قيمة سلبية وعبئا على هذه المجتمعات. وهذا يحدث فقط عبر فتح الأبواب على مصراعيها للنقاش والحوار حول القضايا الأساسية وليس التحزب والهمس وراء الأبواب المغلقة.