عمران سلمان – الحرة – 8 نوفمبر 2019/
في التاريخ الحديث للشعوب توجد عدة أحداث بارزة شكلت صدمة أو رجة في الوعي الجمعي، قادت بدورها إلى تحولات على المستوى السياسي والحضاري، بما في ذلك إجراء مراجعات فكرية مختلفة. باستثناء منطقتنا العربية التي يبدو أنها محصنة حتى الآن من تأثير هذا النوع من الصدمات، مهما كانت شدتها أو حجمها. فما هو السبب؟
منطقة متفردة
اليابان أدارت بوصلتها السياسية والحضارية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وكذلك فعلت تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، فيما تغير البناء الفكري والثقافي لأوروبا كليا بعد الحربين. وشهدت عدة دول في أفريقيا وأميركا الجنوبية أيضا قطيعة مع أنظمة حكم وثقافات سابقة، في مسعى منها لمنع تكرار المآسي والآلام التي تسببت بها لملايين من البشر.
وكان العامل المشترك بين هذه التجارب هو أن اتجاه التغيير يسير دائما إلى الأمام، رغم الصعوبات هنا وهناك، بمعنى استحداث منظومات فكرية وسياسية جديدة، تساعد هذه الشعوب على تجاوز الماضي، والعمل على بناء المستقبل، سواء تعلق الأمر بالأنظمة الديمقراطية أو المصالحات السياسية أو مراجعة أفكار التفوق العرقي أو السياسي أو الديني أو الطائفي.عقلية المؤامرة تناسب أيضا العديد من الحكومات العربية لأنها تعفيها جزئيا من المسؤولية
لكن منطقتنا العربية، تبدو وحيدة ومتفردة في تعاملها مع الصدمات والأحداث الكبيرة التي شهدناها خلال العقود الماضية. فلا الحروب الكثيرة التي خيضت في المنطقة أثمرت نضجا أو تغيرا إيجابيا في التوجهات السياسية للدول والشعوب، ولا الدمار البشري، المادي والنفسي الذي أحدثته الجماعات الإرهابية مثل “داعش” و”القاعدة” وغيرها، قد دفع إلى مراجعات على مستوى الأفكار والممارسات.
البغدادي في تل أبيب!
لقد لفت نظري على وجه خاص ردود الفعل على مقتل زعيم تنظيم “داعش” أبو بكر البغدادي، أن عددا لا بأس به من التعليقات في الصحف والمواقع الإلكترونية، كان إما مشككا في عملية القتل، أو اعتبارها مجرد مسرحية!
بل ذهب عديدون، وبينهم من يفترض أنهم محللون، وبينهم من يفترض أنهم أيضا مسؤولون سياسيون، إلى الحديث المكرر عن كون “داعش” نفسه ما هو إلا مؤامرة أميركية إسرائيلية، هدفها الوحيد والنهائي هو الإساءة إلى العرب والمسلمين عبر تشويه صورتهم والنيل من مصالحهم.
أكثر من ذلك قادت مخيلة البعض إلى اعتبار أن البغدادي لم يكن سوى عميل للموساد الإسرائيلي تم تجنيده للقيام بالمهمة و”أنه عاد الى مكتبه ورتبته في مقر الموساد بتل أبيب، يعتمر القلنسوة ويشرب مع زملائه نخب نجاح مهمته!”.
طبعا لا توجد مشكلة في هذا النوع من التفكير، لو كان محصورا في دوائر ضيقة، فنظرية المؤامرة (حتى في أسوء صورها) موجودة عند معظم الشعوب، وهناك في كل زاوية من زوايا الأرض آراء وأفكار غريبة وصادمة أحيانا، مما لا يخطر على بال إنسان.
انسحاب الوعي
ولكن المشكلة أن هذا النوع من التفكير يجد أرضية خصبة لدى الكثير من المواطنين العرب، حتى بات يحدد سقف المنطق السياسي السائد اليوم في المنطقة.
وبالطبع فإن ما يثير الدهشة هنا هو هذا الاستعداد السريع والسهل لتصديق هذا النوع من الأفكار التي أقل ما يمكن أو توصف به أنها سخيفة ومنافية للواقع.
فما السبب؟
في اعتقادي توجد عدة أسباب لهذه الظاهرة، ولكن الأهم من بينها يعود إلى حالة الانسحاب الشديدة في الوعي والذي تراكم عبر سنوات بفعل الطريقة المدمرة التي تعاملت بها الحكومات والأنظمة السياسية العربية المختلفة مع مواطنيها.
فإضافة إلى الاستبداد والقمع والفساد، هناك أيضا حجب كامل للمعلومات واستهتار واضح بقيمة الإنسان. وهناك ميل دائم للتعامل مع المواطنين كما لو كانوا أطفالا أو قصرا بحاجة دائمة إلى من يفكر عنهم ويتخذ القرارات نيابة عنهم. وهناك حرص سلطوي على جريان السياسات والتعليمات والمعلومات في اتجاه واحد فقط من الأعلى إلى الأسفل.
الحق على الأجانب!
هذه الطريقة الممنهجة في التعاطي مع المواطنين قتلت الإمكانية لخلق أي تفكير مستقل لديهم أو الاستعداد لتحمل المسؤولية عن أي أمر مهما كان صغيرا.
وبحيث لم يتبق لدى المواطن العربي سوى تلك المساحة الضيقة والتي يستطيع من خلالها تفسير ما يدور حوله، بطريقة تتناسب مع العقلية التي تكونت لديه.المشكلة أن هذا النوع من التفكير يجد أرضية خصبة لدى الكثير من المواطنين العرب
بالنسبة له، فإن الآخرين والأجانب منهم تحديدا، يقومون بكل شيء لتحديد مسار المنطقة، فهم يحيكون المؤامرات ويخدعون الشعوب ويزرعون الرؤساء ورؤساء الحكومات ويتدخلون في أدق التفاصيل المتعلقة بشؤون هذه الدول! وبالتأكيد فإن “داعش” لا يمكن أن يكون استثناء هنا!
ولدعم هذه الطريقة في التفكير لا بأس من الاستعانة بقصاصة من هنا وقصاصة من هناك، وترجمات محرفة لكتب أو مقالات أجنبية واستشهادات غير موجودة في الأصل الأجنبي وفيديوهات مفبركة.. الخ.
ويبدو أن عقلية المؤامرة تناسب أيضا العديد من الحكومات العربية، لأنها تعفيها جزئيا من المسؤولية، ولذلك فهي لا تمانع أحيانا في انتشار بعض النظريات، وأحيانا تساهم في الترويج لبعضها الآخر وتشجع الناس على الإقبال عليها.