قليل من السياسة.. كثير من الاقتصاد

عمران سلمان – الحرة – 18 ديسمبر 2020/

على الرغم من الإغراء الواضح للانشغال بالشأن السياسي في الدول العربية والاستثمار فيه، فإن معظم مشاكل هذه الدول هي ذات طابع اقتصادي، كالعجز الكبير في الحساب الجاري والمالية العامة وارتفاع مستويات الدين الخارجي والعام.

وبينما هناك استعداد متزايد للاعتراف بالعلاقة بين الاضطرابات السياسية وبين التدني المستمر لمستويات المعيشة في بعض الدول، إلا أن هذا الاعتراف لا يترجم على أرض الواقع، وبدلا منه يسود الحديث عن الصراعات بين القوى السياسية والمحاور الإقليمية والمؤامرات الدولية…إلخ.

جعجعة من دون طحن

فالدول التي ترزح تحت ضغط الديون وتلك التي تعاني من سوء الإدارة والفساد أو تلك التي تقوم على بنية تحتية متهالكة وبيروقراطية قاتلة وعجز مرضي في الميزانية، هي في الغالب أكثرها عرضة للقلاقل والمشاكل السياسية، من غيرها.

هل يتعلق الأمر هنا بحجم الثروة أو وجود الخامات الأولية مثل البترول من عدمه؟ لا شك أن هذا يلعب دورا كبيرا في اقتصاديات دول مثل الخليج، لكن ما لا يمكن إنكاره أيضا أن كفاءة النظام الإداري والتخطيط والبيئة القانونية والتشريعية للاستثمار في الخليج تتفوق بصورة كبيرة على نظيراتها في الدول العربية الأخرى. كما أن دول الخليج تستثمر الكثير من الوقت والجهد والعلاقات الدولية في تطوير الاقتصاد والدفع بعجلة التنمية.الذين يراهنون على وجود طريق مختصرة واهمون. فكلما طال تنفيذ الإصلاح كلما طالت المعاناة

والعديد من الدول العربية لا ينقصها النفط أو الغاز أو العقول، لكنها مع ذلك تعجز عن الوفاء بأبسط شروط الحياة الكريمة لمواطنيها.

ولا عجب في ذلك. فالاهتمام بالاقتصاد لا يأخذ سوى حيز بسيط من النقاشات والمعالجات داخل هذه الدول، بينما ترى معظم الوقت يستأثر به السياسيون ومحترفو الظهور الإعلامي ومن لف لفهم، في أحاديث وتنظيرات لا تسمن ولا تغني من جوع.

دول طاردة للأجانب

والكثير من الدول العربية، بسبب تشريعاتها وبيئتها الاجتماعية والثقافية طاردة للأجانب والمستثمرين. وهو أمر يعمق من الأزمات الاقتصادية ولا يحلها. ما لا ينتبه له الكثيرون هو أن الازدهار الاقتصادي في أي بلد مرتبط أيضا باستقطاب الكفاءات والعقول والمواهب من مختلف الدول وتحفيزها على البقاء. فليس من باب الصدفة أن الولايات المتحدة أو الدول الغربية عموما، تسلك هذا النهج وتشجع عليه، وليس من باب الصدفة أن دول الخليج تستقطب الملايين من الأيدي العاملة من مختلف دول العالم. وهي تدين لهؤلاء بالتنمية والازدهار الذي تعيشه.

وهذا ليس أمرا فيه ابتداع، فحيثما كانت المجتمعات صحية وطبيعية في بنيتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كلما وجدت إقبالا عليها ممن هم خارجها.

وإذا نظرت إلى خارطة العالم العربي اليوم، فلن تجد سوى دول الخليج، منطقة جاذبة للعمالة، بينما معظم الدول العربية طاردة لها، وليس هناك من يفكر في الذهاب للعمل فيها.

هذا الأمر لوحده مؤشر ينبغي أن يثير القلق في هذه الدول، لكنه للأسف لا يثير قلق أو انتباه أحد. بل على العكس هناك أحيانا من يحرض على كراهية الأجانب ويعمل على تعقيد أوضاعهم وإجبار من تبقى منهم على الهرب والنفاد بجلده.

صندوق النقد

ثم هناك من يلوم المؤسسات الدولية المقرضة مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو غيره، باعتبارها مسؤولة عن فرض الشروط والإملاءات على هذه الدول، وبما يحمل الطبقات الفقيرة الكثير من الأعباء والالتزامات!

وهذا أمر في منتهى الغرابة. فهذه المؤسسات ليست خيرية، والأموال التي لديها تخص دول وجهات تريد عائدا من هذه الودائع. ومن الطبيعي أنها عندما توافق على الإقراض فهي تريد ضمانا بأن الدول المقترضة سوف تعيد هذه الأموال، من خلال انتهاج سياسات اقتصادية سليمة. وعندما تعجز الدول عن تقديم مثل هذه الضمانات فإن المؤسسات الدولية تتدخل لفرض إصلاحات، قد تكون قاسية، بهدف مساعدة تلك الدول على الوفاء بالتزاماتها.الازدهار الاقتصادي في أي بلد مرتبط أيضا باستقطاب الكفاءات والعقول والمواهب من مختلف الدول

إن الأمر هنا يشبه استدانة الأفراد من البنوك أو استخراج بطاقات الائتمان. لا ينبغي للأفراد أن يلوموا البنوك على الأرباح التي تستحصلها منهم، أو اتخاذ إجراءات ضدهم في حالة العجز عن السداد، ولكن يلوموا أنفسهم بالدرجة الأولى للجوئهم إلى البنوك. فهم يوافقون سلفا على الشروط، وهي واضحة ومحددة ومكتوبة، وبالتالي فليس لهم الحق في الشكوى منها بعد ذلك، إذ أن العقد هو شرعة المتعاقدين.

إجراءات لا بد منها

ومختصر القول هو أن الأزمات السياسية والاضطرابات التي تعيشها العديد من الدول العربية اليوم ليس من المرجح أن تنتهي قريبا، مع استمرار تدهور الأوضاع المعيشية في هذه الدول وعجزها عن القيام بإصلاحات اقتصادية ذات مغزى.

والذين يراهنون على وجود طريق مختصرة واهمون. فكلما طال تنفيذ الإصلاح كلما طالت المعاناة. وأية حكومة أو نظام يستلم السلطة سوف يجد نفسه مطالبا باتخاذ إجراءات اقتصادية غير شعبية. هذا بالطبع إذا افترضنا وجود النية والرغبة الصادقة في ذلك.

ففي كثير من الأحيان تمنع الاعتبارات السياسية والحسابات المختلفة الحكومات من اتخاذ الإجراءات السليمة والمطلوبة لإصلاح الاقتصاد، واللجوء إلى حلول ترقيعية، سرعان ما تعيد البلاد إلى المربع الأول، مع المزيد من الاضطراب السياسي وعدم الاستقرار المالي.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *