عمران سلمان – الحرة – 27 ديسمبر 2019/
ثمة الكثير مما يلفت النظر في الاستطلاع الذي نشره البارومتر العربي مؤخرا بشأن الموقف من الدين والأحزاب والزعامات الدينية في العالم العربي.
مؤشرات مهمة
ففي هذ الاستطلاع الذي أجري في ست دول عربية، وهي: تونس وليبيا والعراق ومصر ولبنان والأردن، تراجعت نسب الذين يثقون في الأحزاب الدينية والزعماء الدينيين ومن يعتبرون أنفسهم متدينين ومن يرتادون المساجد.
ففي عام 2013 قال 51 في المئة من المستطلع آراؤهم بأنهم يثقون في زعاماتهم الدينية، لكن هذا الرقم تراجع إلى 40 في المئة العام الماضي.
كما شهدت حالات عدم التدين أيضا ازديادا واضحا وخاصة في تونس والجزائر وليبيا ومصر، فقد ارتفعت النسبة من 8 في المئة عام 2013 إلى 13 في المئة العام الماضي.
الحالة في العراق كانت ملتبسة قليلا. فقد وصف 39 في المئة ممن استطلعت آراؤهم عام 2013 أنفسهم بأنهم متدينون، بينما ارتفعت النسبة إلى خمسين في المئة العام الماضي. لكن عندما سئل هؤلاء عما إذا كانوا يحضرون صلاة الجمعة، فقد انخفضت النسبة إلى 33 في المئة. الأمر الذي فسره معدو الاستطلاع بأنه ربما يعكس تدينا فرديا.
أسباب مفهومة
طبعا يمكن فهم هذه الأرقام على أنها نتيجة لما شهدته المنطقة العربية في السنوات القليلة الماضية، من مآسي وأهوال، نتيجة صعود تنظيم داعش وجبهة النصرة والتنظيمات الإرهابية الأخرى، في العراق وسورية وليبيا ومصر. فضلا عن التجربة الفاشلة لتنظيم الإخوان المسلمين وما جرته من كوارث، وحالة الصراع الدموي والوحشي أحيانا، بين المسلمين أنفسهم، سنة وشيعة.
هذه الأحداث، لا شك أنها دفعت كثيرين إلى إعادة النظر وتقييم موقفهم من المسألة الدينية، على الأقل في بعض المناطق التي عاشت فصول هذه الأحداث ومس الأذى سكانها بشكل مباشر.
كما أن مشاركة الأحزاب الدينية، الشيعية والسنية، في إعادة إنتاج دورة التخلف المجتمعي وجلب الكوارث، والتعمية على الفساد أو المشاركة فيه، جعلت الكثيرين يشعرون بأن هذه الأحزاب لا تمثل أي أفق للمستقبل وأنها مثل الشراك المنصوبة لهم، يصوتون لها في الانتخابات، ثم تدير ظهرها لهم وتعود إلى سويتها الأولية.
الشجرة التي تخفي الغابة
مع ذلك هل يمكن اعتبار الأرقام التي أوردها استطلاع البارومتر العربي نهائية أو تعبر عن حقيقة ثابتة وراسخة في المجتمع العربي؟ وهل يمكن التعامل معها بوصفها أكثر من مجرد ردة فعل آنية على أحداث وقعت، وسوف تزول مع مرور الوقت وتغير الظروف؟
هذا التساؤل مهم، بقدر أهمية ما تظهره تلك الأرقام من دلائل. لأنه في تاريخ المنطقة، ثمة فترات عاشتها بعض الدول العربية وكان يعتقد أنها تعبر عن مزاج عام، ثم تبين أنها مجرد حالة عابرة.
مثال ذلك، الوضع الذي كان سائدا في مصر خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. فمن يشاهد الأفلام والمنتجات الفنية العائدة إلى تلك الفترة أو يقرأ ما كانت يكتب حينها، يعتقد بأن مصر كانت تعيش نهضة ثقافية واستنارة مجتمعية تضاهي أو تتفوق على نظيراتها في البحر المتوسط.
لكن تبين لاحقا بأن تلك المشاهد لم تكن تمثل سوى قسم من النخبة المصرية، ولم تكن حدودها تتخطى المدن الكبرى، فيما بقية مصر كانت تعيش التقاليد القديمة وتتمسك بالمفاهيم الدينية الموروثة.
وبالطبع لم يستغرق الأمر سوى سنوات قليلة من حكم عبد الناصر ومن جاؤوا بعده حتى عاد المجتمع المصري القهقري وأظهر طبيعته التي كان دوما يعيشها.
والمجتمع المصري لم يكن وحيدا في ذلك، فقد حدث الأمر نفسه في مجتمعات عربية أخرى مثل العراق وغيرها. بل من كان يتوقع أن ينتج مجتمعا متحضرا مثل المجتمع السوري كل هذا الكم من الجماعات السلفية والجهادية والتعطش للقتل وسفك الدماء؟
لا تنبغي المبالغة
لا أقول ذلك من باب التشكيك في استطلاع البارومتر العربي، فالمؤكد أنه يعكس المزاج العربي في حالته الراهنة، وهو مزاج نأمل أن يتطور ويتعزز، لكن لا تنبغي المبالغة أيضا في الأمر، أو تصوير الحالة الراهنة على أنها دليل على أن المجتمعات العربية بدأت تتحرك في اتجاه الحداثة، أو أنها باتت تعي بأن مصلحتها تكمن في الدولة المدنية الحديثة القائمة على حكم القانون، وأن الدين هو مسألة شخصية، لا ينبغي أن تكون له دول أو أحزاب أو أجهزة تنطق باسمه أو تحارب الناس من أجله.
ربما هناك فئات قليلة في المجتمعات العربية، وعددها آخذ في الازدياد مع الوقت، بدأت تقتنع بذلك، لكن من الواضح أن غالبية الشارع العربي ليست بعد في وارد القطيعة مع النماذج الحالية، وأن هذا الشارع ربما سئم من الأحزاب الدينية وشخوصها، ولكنه لم يسأم من الفكرة نفسها أو تصل قناعته إلى حد اتخاذ إجراءات جذرية.
الواقع أنه ليس هناك ما يكفي من النخب الثقافية الحقيقية والنزيهة التي تجاهر برأيها في هذه المسألة، كما أنه ليس هناك ما يكفي من الإرث الثقافي والمعرفي في هذا الجانب. وشخصيا لست أشك بأن المجتمع العربي سوف يصل إلى هذه النتيجة عاجلا أو آجلا، إلا أننا لم نصل إلى هذه المرحلة بعد.