عمران سلمان – الحرة – 3 يناير 2020/
استكمالا لمقالي السابق “هل أصبح العرب أقل تدينا؟” والذي أوضحت فيه أن نتائج استطلاع البارومتر العربي بشأن الحالة الدينية، وإن عكست مزاجا يبتعد قليلا عن الدين أو يرتاب في الأحزاب الدينية ويشكك فيها، إلا أنها قد لا تعني بالضرورة أننا أمام لحظة تحول فارقة في الوعي والثقافة العربية باتجاه الإصلاح الديني أو الدخول في الحداثة.
ضبط المصطلحات
إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، ليس فقط ما الذي يمنع أو يعوق حدوث مثل هذا التحول، رغم أن هذا سؤال جدي وملح (وسوف أجيب عليه في السطور القادمة)، ولكن أيضا الإجابة على سؤال ما الذي نعنيه بالحداثة أو العصر الحديث أو الدولة المدنية، وما الذي يفهمه كل إنسان من هذه المصطلحات، وما هي الآلية التي تمكننا بالفعل من قياس تحقق ذلك، من عدمه، على أرض الواقع.نرى بوادر تفسخ الدولة العربية التي استنفدت طاقتها وقدرتها التاريخية
إن المصطلحات تخدعنا أحيانا، خاصة إذا تعلق الأمر بالتحولات المجتمعية، لأن المصطلح يشير عادة إلى مفهوم بعينه في ذهن كل باحث (بما يتضمنه من حمولات أيديولوجية وسياسية واقتصادية)، بينما المجتمع متنوع ومفتوح ومتغير أيضا، وإن بصورة بطيئة وغير ظاهرة أحيانا. والحال أن البحث عن التوصيفات المعبرة عن حالة المجتمعات في كل زمن ومرحلة، هو عمل مطلوب وضروري لمقاربة الواقع بأفضل صورة ممكنة.
لكنه عمل صعب في حد ذاته، لأنه يستلزم قدرا كبيرا من الإحاطة والموضوعية، والأهم أن يتم بعيدا عن الإرادوية إذا أريد له أن يكون نافعا.
المعوق الأكبر
والحال أن المجتمعات العربية ليست خلوا من “الحداثة” بمعناها الأوسع والمتداول، وهي ليست في كليتها ممانعة للأخذ بالأساليب والأفكار العصرية، أو بأفكار عصر التنوير أو الأنوار، إذا تعلق الأمر بالمسائل الجوهرية مثل الدين والأخلاق والقيم والنظم السياسية.
لكن المشكلة بالطبع أننا لا نرى ذلك يتحول أو ينعكس على التوجهات العامة في المجتمع أو القوانين أو العلاقات بين المكونات المختلفة.
وهنا نعود إلى الإجابة على سؤال المعوقات، والتي أعتقد أنها أكثر من معوق وليس واحدا. ولكن منها ما هو أساسي وثمة ما هو متفرع عنها. لعل المعوق الأكبر أمام انتقال المجتمعات العربية نحو أي إصلاح أو تغيير، بما في ذلك “الحداثة”، يعود إلى طبيعة الدولة العربية أو النظام السياسي العربي نفسه.
ما هي صفات هذه الدولة؟
ــ دولة أبوية، تقدم نفسها بوصفها راعية ومسؤولة عن المواطنين وليست شريكة لهم وخاضعة لنفس العقد الاجتماعي. وهي بهذا المعنى تتحدث نيابة عن الناس وتعمل ما تعتقد أنه يصب في مصلحتهم. وهي تعاقبهم أو تغدق عليهم بحسب أدائهم، بالضبط كما يعامل الأب أو الأم أطفالهم.
ــ دولة تحتكر الفضاء السياسي والديني والاقتصادي. ويشمل ذلك مؤسسات السلطة والتعليم والمسجد والإعلام والأنشطة الاقتصادية الأساسية.
ــ دولة يستحوذ إدامة الوضع الراهن على جل اهتمامها ووقتها ومواردها، بما في ذلك علاقاتها مع العالم الخارجي.
دولة الرعاية الأبوية
هذه الدولة ليس لها مصلحة في إفلات المواطنين من قبضتها أو العمل على التحول نحو “الحداثة” الذي سوف يستلزم ابتداء أن يكون المواطنون شركاء متساوون أمام القانون، وقادرون على تحمل المسؤولية، على قاعدة الحقوق والواجبات والمحاسبة.
من الجانب الآخر فإن من يعيش في ظل هذا النمط من الدولة، سوف يصعب عليه الخروج عليه، لأنه ببساطة لم يعرف شيئا آخر طوال حياته. فهو يتطلع إلى هذه الدولة في كل أمر من أموره الخاصة والعامة، من السكن إلى الوظيفة إلى الصحة، إلى القيم والأخلاق، إلى التعليم والرأي الديني.. إلخ. فالخروج عليها مغامرة غير مضمونة النتائج!دولة أبوية، تقدم نفسها بوصفها راعية ومسؤولة عن المواطنين وليست شريكة لهم
وحتى إذا قرر أن يأخذ على عاتقه مهمة التجربة والخطأ، فإنه سوف يحتاج إلى وقت وجهد والوقوع في بعض الأخطاء الملازمة لكل تجربة.
وهنا تقف الآلة الإعلامية والدعائية للدولة بالمرصاد، فهي تكرر وتشيع (بصورة مباشرة أو غير مباشرة) أن المواطنين ليسوا مؤهلين لتقرير مصيرهم بأنفسهم وليسوا مؤهلين للديمقراطية أو الحداثة أو دولة القانون.. إلخ. وفي بعض الأحيان تعتبرهم جاحدين وعاقين للخدمات والمزايا التي تقدمها لهم، وهي تقارن بين وضعهم وأوضاع الشعوب الأخرى.
تفكيك الدولة العربية
طبعا من المهم أن نأخذ بعين الاعتبار أن نمط الدولة العربية الذي نتحدث عنه، له جذوره التاريخية والثقافية والدينية. فهو لم يخلق بالأمس وليس نتاجا لهذه السلطة السياسية أو تلك. ولهذا فإن تفكيك هذا النمط من الدولة والانتقال إلى الحداثة، سوف يعني أيضا إعادة تأهيل واشتغال كامل على تلك الأصعدة.
وهذا الأمر قد يواجه بمقاومة، أحيانا شرسة، ليس فقط من السلطات السياسية التي ورثت (أو استحوذت على) هذه الدولة، ولكن أيضا من فئات مجتمعية، تجد نفسها مستفيدة أو متناغمة مع هذا النمط أو غير قادرة على (أو راغبة في) تخيل نفسها تعيش في دولة مدنية حديثة.
مع ذلك لا يبدو أن هناك بديل عن هذا الأمر (التأخير يجعل الأمور أسوء)، ونحن نرى بوادر تفسخ هذه الدولة التي استنفدت طاقتها وقدرتها التاريخية وباتت عاجزة عن الإجابة عن حاجات وتطلعات المواطنين.. مثل الثوب الذي كبر صاحبه وبات يضيق عليه يوما بعد يوم.