عمران سلمان – 17 يناير 2020/
لكي يكون الإنسان منصفا عليه الاعتراف بالأمر التالي: يشكو كثير من البشر في منطقتنا من التمييز وغياب التسامح سواء مع معتقداتهم أو أصولهم العرقية أو الثقافية أو دياناتهم أو اتجاهاتهم السياسية أو جنسهم أو وضعهم الاجتماعي أو الطريقة التي يقدمون بها أنفسهم.
لكن عندما تتفحص هؤلاء عن كثب (وجميعنا غير محصنين من ذلك) تكتشف بأنهم أنفسهم غير متسامحين أيضا مع غيرهم ممن يخالفونهم، سواء في معتقداتهم أو أصولهم العرقية أو الثقافية أو دياناتهم أو اتجاهاتهم السياسية أو جنسهم أو وضعهم الاجتماعي أو الطريقة التي يقدمون بها أنفسهم..
يدافعون عن أنفسهم
بالطبع لدي أمثلة كثيرة على ذلك، ولست أشك بأن لدى القارئ الكريم أيضا قائمته بالأمثلة، لكني لا أريد أن أتطرق هنا إلى التفاصيل. ما يهمني هو أن أبيّن أن كثيرا من الناس يعجزون عن فهم حقيقة بسيطة ومجربة، وهي أن تأييدنا أو سماحنا أو عدم اكتراثنا للتمييز ضد إنسان، ولأي سبب كان، هو مقدمة منطقية للتمييز ضد حقوقنا في مرحلة لاحقة.التسامح اليوم هو أحد القيم الرئيسية في عالمنا وهو ركيزة مهمة لصون السلم الأهلي
فعقلية التمييز لا تميز حقا بين الناس، هي تجرف الجميع، وعاجلا أو آجلا سوف تضع التصانيف والفروق والتمييزات، وعلى أساسها سوف تحدد من يستحق القبول به ومن لا يستحق.
ولذلك فإن الذين يرفضون التمييز هم في الحقيقة يدافعون في الوقت نفسه عن أنفسهم، وليس فقط عن أولئك الذين يقعون ضحية لأعمال التمييز.
التسامح لا يتجزأ
يدهشني مثلا أن بعض “المتفتحين” ممن يظهرون الاحترام لجميع الأديان والثقافات ويقبلون أتباعها ولا يميزون بينهم، أو هكذا يقولون، تراهم مثلا يميزون ضد المثليين أو ضد النساء أو بعض الفئات الضعيفة في المجتمع، ويعتبرون أن هذا الأمر الأخير مختلف ولا تنطبق عليه شروط “التسامح” أو “قبول الآخر”.
وهذا أمر غريب حقيقة. فما الذي يجعلهم يميزون في “تسامحهم” أو “قبولهم”، بين شخص وآخر. ألا يعد هذا تمييزا في حد ذاته؟
هناك أيضا من يظهرون التسامح مع أتباع ما يعرف بـ”الأديان السماوية”، لكنهم ينظرون شذرا إلى الأديان الأخرى، سواء البوذية أو الهندوسية أو الزرادشتية أو البهائية أو الأديان المحلية في المجتمعات المختلفة أو من لا دين لهم.
وتستغرب كيف يمكن للإنسان أن يجزأ التسامح أو يتعامل معه بانتقائية، إلا إذا كان هو نفسه فاقدا له في الأساس، وأن ما يظهره مجرد تعاطيا اضطراريا فرضه عليه الأمر الواقع!
القيم البدائية
بطبيعة الحال ثمة من يرى بأن الحديث عن التسامح يعد ترفا في منطقتنا العربية، بالنظر إلى حجم الأزمات والمشكلات والحروب الأهلية التي لا تنفك تتوالد مثل الفطر. كما أن هناك من يرى بأن الاحتكام إلى القوة هو السبيل الوحيد في مواجهة العداوات المستحكمة.
لكن هؤلاء لا يلاحظون مع ذلك أن عجزنا عن إدارة مشاكلنا واختلافاتنا وتحولها إلى أزمات عنيفة، هو بسب غياب القيم الإنسانية في التعامل، والتسامح من بينها في المقام الأول. وأن الاقتتال الدائر بين الأفرقاء والمحاور المختلفة، سواء الفعلي منه أو الضمني، وسواء اتخذ شكل الحرب أو المناكفة، هو نتاج الانزلاق إلى القيم البدائية التي تميز الضواري والمفتونين بشريعة الغاب. حتى اللغة السياسية المستخدمة في السجالات ما بين الأفرقاء في المنطقة العربية، هي تنتمي إلى تلك الشريعة وتغرف من مفرداتها.
التعايش في ظل الاختلاف
إن التسامح لا يعني الاتفاق أو الموافقة بين الخصوم، ولكنه يعني التعايش والقبول بالآخر، وإدارة الاختلافات على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات. بعبارة أخرى لا يستوجب التسامح أن يتناسى الناس خلافاتهم أو يطمسوها، لكنه لا يعني أيضا أن يتقاتلوا بسببها أو يسعى أحدهم إلى إلغاء الآخر.كيف يمكن للإنسان أن يجزأ التسامح أو يتعامل معه بانتقائية
وهذا هو السبب في أننا لا نشهد حروبا أو أعمال عنف مجتمعية واسعة في العديد من دول العالم، باستثناء منطقتنا. فالتسامح اليوم هو أحد القيم الرئيسية في عالمنا وهو ركيزة مهمة لصون السلم الأهلي في المجتمعات المختلفة.
ورغم أن التسامح قيمة أنتجتها الحضارة الغربية من واقع تجربتها ومعاناتها المريرة خلال النزاعات الدينية والقومية والأهلية، إلا أنها تدعّمت في العصر الحديث بفضل تطور الدول ورسوخ القوانين والمؤسسات.
لقد أنتجت المعاناة قناعات لدى الكثير من الناس في تلك المجتمعات ليس فقط باستحالة القضاء على الآخر ومحوه من الوجود، وإنما بعبثية ذلك وعدم جدواه أيضا. وليس هناك من سبب يجعل منطقتنا العربية تصر على الاستمرار في أن تكون أسيرة لتلك المعاناة.