عمران سلمان – الحرة – 14 فبراير 2020/
تحدثت في المقال السابق عن الضائقين ذرعا بالجمود الديني والباحثين عن طرق جديدة للتصالح بين إيمانهم الديني الشخصي، وتحديات العصر. والواقع أن ذلك لا يشمل فقط المسلمين في الدول العربية، وإن كانت أهميته ودلالته هنا أكبر، ولكنه ينطبق أيضا على المسيحيين وغيرهم في الدول الغربية الذين سبقونا في هذا المضمار.
فقدان الثقة
ففي الولايات المتحدة أظهر تقرير لمؤسسة غالوب العام الماضي أن أعدادا متزايدة من الأميركيين فقدت ثقتها في المؤسسات الدينية. والمؤسسات المقصود بها هنا هي الكنائس الرسمية، كما يشمل أيضا تعبير الأديان المنظمة (المسيحية، الإسلام، اليهودية… إلخ).
ففي عام 1975 كان 86 في المئة من الأميركيين إما لديهم ثقة كبيرة أو معقولة في المؤسسات الدينية، لكن هذه النسبة انخفضت إلى ما دون الخمسين في المئة عام 2002، ووصلت العام الماضي إلى 36 في المئة.هذه الاتجاهات لا تعيد الحيوية فقط لعلاقة الإنسان بالخالق وإنما أيضا تنقلها إلى آفاق جديدة
وبينما يعزي التقرير سبب هذا التراجع الحاد إلى عدد من العوامل، بينها الانتهاكات الجنسية التي لازمت بعض الكنائس في السنوات الأخيرة، والارتباط المتزايد لبعض القيادات الكنسية مع جماعات أقصى اليمين، وكذلك عدم وجود شخصيات كارزماتية في المؤسسات الدينية تتمتع بالكفاءة والنزاهة وعدم التحزب… إلخ، إلا أنه لا يستبعد أيضا أن الناس ببساطة إنما يحولون اتجاهاتهم الدينية والروحية إلى منافذ جديدة ومختلفة، تاركين الدين المنظم خلفهم بشكل متزايد.
ويشير التقرير إلى نقطة مهمة، وهي أن هذا الانخفاض لا يعكس بالضرورة الموقف من الدين نفسه، كما أنه ليس دليلا على تزايد الإلحاد. فعدد الذين يعتقدون بدور ما لله أو الخالق في حياتهم أو في حياة الإنسان عموما لا يزال كبيرا رغم ذلك.
الدين الفردي
وباعتقادي هنا يكمن مربط الفرس، سواء بالنسبة لشعوب الدول الغربية أو المسلمين أو غيرهم من أتباع الأديان. فثمة شعور متزايد بأن الإيمان بالله أو بوجود خالق أو قوة/طاقة ما في الوجود، لا يعني بالضرورة أن الإنسان بحاجة إلى الانتماء إلى دين معين. وبالطبع لا يعني أن عليه الانتماء إلى مؤسسة دينية.
هذا الاتجاه، ليس جديدا، فهو موجود منذ القدم، لكنه آخذ في التزايد بصورة مضطردة في العقود الأخيرة، بحسب ما تبينه عدد من الدراسات الحديثة واستطلاعات الرأي المختصة بالموضوع.
وإحدى آيات هذا التزايد هو الانتشار السريع للاتجاهات الروحانية في العالم، بما في ذلك المجتمعات الإسلامية، والتي تؤكد على الصلة الشخصية والمباشرة بين الله والإنسان، من دون المرور بالضرورة برجل الدين.
هذه الاتجاهات لا تعيد الحيوية فقط لعلاقة الإنسان بالخالق ـ والتي تيبست بفعل المؤسسة الدينية ـ وإنما أيضا تنقلها إلى آفاق جديدة، تحرر الإنسان من الخوف وعقدة الشعور بالذنب، والخطيئة الأصلية، وتصحح صورة الله لدى الإنسان والتي تشوهت بفعل ممارسات وتعاليم المؤسسات الدينية.
الأقاليم الدينية
وفي شأن ذي صلة بالموضوع كان لافتا أن مؤسسة غالوب نشرت قبل عامين (2018) تقريرا عما أسمته بالأقاليم الدينية في الولايات المتحدة، حيث أجرت 130,959 مقابلة مع السكان في ثمانية أقاليم تشمل الخمسين ولاية أميركية.
وفي التقرير جاء إقليم “نيو إنغلاند” في أقصى الشمال الشرقي، والذي يضم ولايات فيرمونت ومين وماساشوستس ونيوهامشر ورود آيلاند وكونيتيكت، الأقل تدينا، يليه إقليم الباسفيك ويضم ولايات الساحل الغربي وهي كاليفورنيا وأوريغون وواشنطن وآلاسكا وهاواي. فيما أظهر إقليما “ساوث إيست وساوث ويست” ـ واللذان يضمان الولايات المعروفة بحزام الإنجيل وتبدأ من جنوب ولاية فرجينيا، مرورا بنورث كارولاينا وحتى فلوريدا جنوبا وآلاباما والمسيسيبي غربا وحتى ولاية تكساس ـ الأكثر تدينا. أما باقي الولايات فقد تراوحت فيها النسب والأرقام.
بين المدينة والريف
طبعا هذه الأرقام هي على المستوى العام لكل ولاية، لكن البيانات تختلف داخل الولاية نفسها ما بين المدن والأرياف أو المناطق النائية. فكلما اقترب الإنسان من المدينة أو المناطق الحضرية كلما قل التدين التقليدي والعكس صحيح.
ومغزى هذا التفاوت، هو أنه يبين أن الحاجة للارتباط بالمؤسسة الدينية، ليس نابعا بالضرورة من العلاقة المباشرة مع الدين نفسه، بقدر ما يعكس طبيعة العلاقات الاجتماعية والحاجة إلى الشعور بالانتماء والأمن الاجتماعي.الأديان المنظمة والمؤسسات الدينية تنتظرها تحديات جسام في المستقبل وخياراتها تضيق مع الوقت
ففي المدن وحيث الجامعات والمؤسسات الكبيرة، وحيث الإمكانية أكبر للانفتاح والاختلاط بالعالم الخارجي، تنتشر قيم الفردية والحرية الشخصية على نحو بارز. ويكون في متناول الإنسان تأمين نمط من المعيشة أكثر استقلالية ولا يعتمد بالضرورة على الآخرين.
بينما في الأرياف أو المناطق النائية حيث ظروف الحياة الأصعب وانعدام التنوع الاجتماعي وضعف الاتصال بالخارج، تجعل الإنسان بحاجة إلى انتماء أو تعريف اجتماعي وثقافي، يتجاوز نطاقه الضيق، وهنا يأتي دور المؤسسة الدينية.
أفضل المخارج
يمكن القول إن الأمر نفسه ينطبق على أجزاء كبيرة من المجتمعات العربية، التي يتشابه نمط الحياة الاجتماعية فيها مع المجتمعات الأميركية الريفية، حيث أن الارتباط بالدين أو المحافظة يتعلق أساسا بالحاجة إلى الشعور بالانتماء والتعريف أو الاندراج ضمن جماعة ما.
لكن هذا الواقع يتغير في الولايات المتحدة وفي العالم أيضا، وإن ببطء، مع اتساع حجم المدن وتآكل الريف وبالتالي ينعكس ذلك على العلاقة بالدين نفسه.
وخلاصة القول إن الأديان لن تختفي والإنسان يظل بحاجة إلى شكل من أشكال الدين، لكن الأديان المنظمة والمؤسسات الدينية تنتظرها تحديات جسام في المستقبل وخياراتها تضيق مع الوقت، ولعل من بين أفضل المخارج أمامها هو الروحانية أو العلاقة الشخصية بين الإنسان وما يؤمن به.