عمران سلمان – الحرة – 29 مايو 2020/
لا يمكن أن ينجح أي إصلاح أو نهضة أو تقدم في الفضاء الإسلامي من دون الفصل بين ما هو خاص وما هو عام عندما يتعلق الأمر بالشأن الديني. الخاص هو أن الدين/الإيمان الديني فردي بطبيعته وأن الفرد حر في اتخاذ أي دين أو عدم اتخاذه لدين معين. هذه حريته الشخصية وهي جزء من حريته كإنسان. بينما الشأن العام هو شأن يتعلق بالمجتمع ككل، وبهذه الصفة فهو لا يمكنه أن يتبنى أو ينحاز لدين أو أيديولوجية معينة.
الطريق إلى الفاشية
الخلط بين هذين الأمرين، وحيثما حدث، قاد على الدوام ويقود إلى نكبات وكوارث. لماذا؟ لأن الأديان والأيديولوجيات هي بطبيعتها مطلقة ومغلقة ونهائية. فكل شيء يبدأ عندها وينتهي معها. إذا تبناها الأفراد فهذه مشكلتهم وهي حريتهم في الأخير، لكن حين تتبناها الدول والمجتمعات والحركات، فهي تسير بها ومعها لا محالة نحو القمع والاستبداد والوحشية في الداخل، والسلوك الفاشي (أو الأقرب إلى الفاشية) في الخارج. هل نحتاج إلى أمثلة؟
إن الماضي وكل ماض، إنما هو فعل منته ولا يمكن استعادته من جديد
الأمثلة كثيرة بما يكفي لملأ مجلدات بأكملها. لنأخذ نموذج دولة تنظيم “داعش”. ما هي الفكرة الأساسية التي كانت تحرك هذه الدولة أو التنظيم؟ سنجد أنها هي نفسها فكرة كل دين وكل أيديولوجية تحتل الفضاء العام. فهي الأعلى والأفضل والأحق بالوجود، وأتباعها هم خير الأتباع الذين أخرجوا للعالم. ما هو مصير من لا ينتمي إلى/ أو لا يوافق على/أو لا يتبع هذه الفكرة؟ هم ليسوا بشرا وإنما مثل الدواب والأنعام، بل أضل سبيلا، أي أنهم في المحصلة أدنى مرتبة من الحيوان نفسه. وإذا كان الحيوان يذبح فلماذا لا يكون مصير هؤلاء هو الذبح؟
العودة للأصل
ما هو النموذج الذي تتطلع إلى إقامته؟ هو نموذج ماضوي بحكم التسلسل المنطقي لهذه الفكرة. بمعنى أنه نموذج وجد في مرحلة تاريخية معينة، وكان عصره أزهى العصور وأكثرها عدلا وكمالا!
لماذا لا تسعى للأخذ من النماذج المعاصرة أو تبتكر نموذجا مغايرا؟ الإجابة هي لأن هذه النماذج كلها هي في مقام “البدعة”، إذ هي لا تشترك في الدين أو الأيديولوجيا، وهي ليست من إنتاج خير الأتباع الذي أخرجوا للعالم. فالعودة إلى الأصل هنا هو شرط لا غنى ولا تنازل عنه، لأنه يحفظ “للمقدس” أو من “يقوم مقامه”، حقه ومكانته من جهة، ويجنب الأتباع الانحدار نحو الدرك الأسفل، كي لا ينطبق عليهم ما ينطبق على “الدواب والأنعام”.
الواقع أن العودة إلى الأصل أو إلى نقطة البداية (بداية ما) ليست حصرا على الدولة أو الجماعة الدينية، هي ملمح مشترك لكل أولئك الذين يتوقون أو يحنون بشكل مرضي نحو الماضي. إنه يشبه عجز الرضيع عن الفطام. وهو عجز يعمي هؤلاء عن التعامل مع الواقع من حولهم والذي يعيشون فيه.
أشباح الماضي
في عالمنا العربي يتساءل الكثيرون لماذا تأخرنا؟ والجواب هو كيف يتقدم من يسير إلى الخلف! إننا، من بين أمور أخرى، لم نكرس أي وقت للاهتمام بالحاضر. فقد كان الهم المقيم والطاغي دائما هو العودة إلى الماضي والبحث عن الماضي والصراع حول الماضي.. بالنسبة للعربي والمسلم كان دائما ثمة ماض ينبغي العودة إليه. فثمة دولة عربية واحدة كانت فيما مضى ويجب إقامتها من جديد. وثمة دولة إسلامية كانت في السابق ويجب العمل على إعادة بنائها، وكان ثمة خلافة إسلامية لا بد من إحيائها، وكان ثمة زمن جميل للصحابة والتابعين يجب التماهي معه.. إلخ.
إن السعي نحو الماضي أو محاولة العيش فيه يولد إهمال أكيد بالحاضر، وهو الزمن الوحيد الموجود، ويهدر الفرص لبناء أي شيء ذي قيمة
كل الجهد والطاقات والأفكار والأذهان، كانت ولا تزال مسخرة بشكل أو بآخر نحو استعادة الماضي أو محاولة العيش في ظلاله، بينما الحاضر يهمل ويضحى به على مذبح الأوهام والشعارات والخيالات.
وحين تسأل أين هو هذا الماضي، وهل له وجود أو مكان يمكن العودة إليه؟ يشيرون لك إلى بطون الكتب والقصص والأحاديث. من دون أن يدركوا أنه حتى هذه الكتب والأحاديث هي ليست الماضي نفسه، وإنما هي تفسيرات وآراء وتصورات بشرية للماضي.
الخسارة المؤكدة
بمعنى آخر، فإن الماضي وكل ماض، إنما هو فعل منته ولا يمكن استعادته من جديد. وحتى أولئك الذين أغرموا بالماضي حد الضياع، وحاولوا استعادته، اكتشفوا في اللحظة التي بدا لهم فيها بعض النجاح، أنهم إنما يستعيدون فهمهم هم للماضي وليس الماضي نفسه.
إن السعي نحو الماضي أو محاولة العيش فيه يولد إهمال أكيد بالحاضر، وهو الزمن الوحيد الموجود، ويهدر الفرص لبناء أي شيء ذي قيمة. كل الدول والجماعات البشرية التي حاولت استعادة ماضيها خسرت ما كان بحوزتها، بدءا من ألمانيا وإيطاليا خلال الحربين العالميتين، وحتى الفلسطينيين اليوم، بينما الدول التي وضعت حدا لهذا الشبق المرضي بالماضي، نجحت في التقدم وبناء مجتمعات حديثة مثل تركيا حينما تخلت عن الحقبة العثمانية، واليابان حينما تخلت عن ماضيها الإمبراطوي وغيرها. وفي الحالتين تم ذلك بالتوازي أيضا مع حل المشكلة الأكبر وهي الفصل ما بين الخاص والعام فيما يتعلق بالشأن الديني والاعتقادات عموما. من نافل القول إن باب العودة للماضي، في الحالتين الأخيرتين وفي الحالات عموما، يظل مفتوحا للأسف، لكن النتيجة لن تكون مختلفة كثيرا في كل مرة.