ليس كل ما يلمع ذهبا!

عمران سلمان – الحرة – 05 يونيو 2020/

تلقي جريمة القتل الوحشية للمواطن الأميركي من أصل أفريقي جورج فلويد على يد ضابط الشرطة ديريك شوفين وثلاثة من زملائه البيض في مدينة منيابولس بولاية مينيسوتا، الضوء ليس فقط على قضية العنصرية، والتي لا تزال تعاني منها الولايات المتحدة رغم مرور سنوات طويلة على إلغاء العبودية، ولكن أيضا على مفارقات في بعض المدن الأميركية التي يصعب فهمها في ظل السياق الطبيعي للأحداث.

وجهان لمدينة واحدة

إحدى هذه المفارقات هي، كيفية فهم التناقض بين كون منيابولس، واحدة من بين أكثر المدن الأميركية ليبرالية وانفتاحا وذات تنوع عرقي وسجل ناصع في القبول والترحيب بالمهاجرين من ناحية، ومن ناحية أخرى لا تزال المدينة تعاني من مشاكل عنصرية حقيقية، سواء على مستوى المؤسسات، كما هو حال أجهزة الشرطة أو إنفاذ القانون، أو في توزيع الموارد بين السكان أو التخطيط الاجتماعي والعمراني.

هذا التساؤل طرحته أيضا صحيفة نيويورك تايمز في تقرير لها مؤخرا. فالمدينة، التي يسكنها حوالي 430 ألف نسمة وموزعة ما بين 60 في المئة من البيض و20 في المئة من السود و10 بالمئة من أصول لاتينية وستة في المئة من أصول آسيوية، يديرها مجلس مكون من 12 عضوا من الحزب الديمقراطي وعضو من حزب الخضر. ومن بين هؤلاء يوجد عضوان من المتحولين جنسيا. كما عرفت المدينة باحتفالها الرسمي منذ سنوات بيوم إلغاء العبودية والذي يصادف 19 من يونيو ويعود تاريخه إلى عام 1865.

قضية العنصرية ليست من القضايا التي تحل عبر القوانين وحدها

أكثر من ذلك فإن ولاية مينيسوتا معروفة بترحيبها بالمهاجرين، حيث استقبلت 110 آلاف مهاجر ما بين عامي 1979 و2018، بمن فيهم عشرات الآلاف من المهاجرين الصوماليين خلال التسعينيات، والذين استقر معظمهم في منيابولس، بما في ذلك النائبة الأميركية إلهان عمر التي انتخبت كأول امرأة مسلمة عن إحدى دوائر المدينة.

عنصرية مغلفة بابتسامة

في الوقت نفسه تعاني المدينة، حسبما يقول تقرير نيويورك تايمز، من فوارق عرقية كبيرة بين السكان البيض والسكان من الأعراق الأخرى، حينما يتعلق الأمر بفرص التعليم ومخرجاته، وحظوظ التنمية الاقتصادية وفرص الرعاية الصحية. فالقليل جدا من العائلات من أصول أفريقية تملك منازلها مقارنة بعائلات البيض، كما يهيمن البيض على جهاز الشرطة الذي يتهم منذ عقود بالقيام بممارسات عنصرية، لكن من النادر أن يتعرض أفراده المسيؤون إلى عقوبات تأديبية.

يقول “لورانس آر. جاكوبز” أستاذ العلوم السياسية في جامعة مينيسوتا “إن العنصرية موجودة هنا منذ زمن طويل. تستطيع أن تشاهدها في تخطيط الأحياء وفي نظام التعليم وفي نظام المواصلات وبالطبع في نظام الشرطة”.

لكن بالطبع يظل السؤال هو كيف يمكن أن يحدث الأمران معا، تبني القيم الليبرالية وفي نفس الوقت الإبقاء على الإرث العنصري في الوقت نفسه؟

ما جرى في منيابولس وما يجري في المدن الأميركية الأخرى، إذا كان له من معنى، فهو أنه يشكل فرصة لمقاربة هذه القضية بصورة أكثر جذرية

ثمة من يجادل بأن “المظهر” الليبرالي الذي يقدمه بعض السكان أو بعض المدن، ومنها منيابولس ليس حقيقيا، وإنما هو مجرد “قناع” يخفي وراءه مشاكل متجذرة. مشاكل يعجز هؤلاء عن حلها، لأسباب نفسية أو ثقافية أو تاريخية أو عملية، فيلجؤون إلى دفنها تحت السجادة.

يقول روبرت ليليغرين، وهو أول أميركي من السكان الأصليين ينتخب لعضوية مجلس المدينة عام 2001، “هذا هو الشعور العام: أن تقوم بعمل مصطنع، ثم تشعر بأنك قمت بعمل كبير. أن تشكل هيئة تعني بالحقوق المدنية، ومجلس مدني لمراجعة عمل الشرطة، ولكن لا تعطي أي منهم صلاحية لتغيير السياسات أو تغيير النظام”.

مقاربة جذرية

بالطبع مثل هذا الكلام يتردد صداه في مدن أميركية أخرى، وفي بعض المناسبات أو الأزمات، لكنه لا يخلو أيضا من التعميم، وهو تعميم قد لا يساعد أحيانا على طرح القضايا بصورة جدية. إذ هو يتغافل عن أن الغالبية في المجتمع الأميركي لا توافق على الممارسات العنصرية، وإن لم تفعل ما يكفي لمكافحتها. وأن هناك عدد كبير من البيض وقفوا وحاربوا طوال عقود ضد الممارسات والقوانين العنصرية في البلاد ودفعوا ثمنا باهظا جراء ذلك. بل هناك من لا يزال منهم حتى اليوم يتصدر الدفاع عن الحقوق المدنية وقضايا الأقليات ومناهضة التمييز على أساس العرق أو الدين أوالجنس… إلخ. كما أن المشاركين في تظاهرات اليوم أو التظاهرات السابقة، لم يكونوا كلهم من السود.

لهذا فإن ما جرى في منيابولس وما يجري في المدن الأميركية الأخرى، إذا كان له من معنى، فهو أنه يشكل فرصة لمقاربة هذه القضية بصورة أكثر جذرية، وخاصة عل مستوى أجهزة الشرطة والجهاز القانوني عموما التي يتعين إصلاحها بشكل يكفل وضع حد لتكرار المآسي التي لحقت ظلما بالسود طوال السنوات الماضية.

أقول ذلك، مع التأكيد على أن قضية العنصرية ليست من القضايا التي تحل عبر القوانين وحدها، ففي الولايات المتحدة توجد قوانين هي الأكثر صرامة ضد التمييز العنصري، ولكنها قضايا تتعلق أيضا بالوعي وتغيير العقول والقلوب معا. وهذا يصح في أميركا كما يصح في غيرها من الدول.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *