عمران سلمان – الحرة – 15 مايو 2020/
ثمة في كتابات المفكر السوري أدونيس الكثير مما يستفز، ولكنه دائما استفزاز جميل يحرض الفكر على الحركة والخروج من منطقة الأمان الثقافي والمعرفي، إلى مساحات لا مفكر فيها.. وهو الخروج الضروري واللازم لحدوث أي عملية تغيير أو إبداع حقيقية.
رفض الإنسان
يتساءل أدونيس: “لماذا يُعذّب أو يقتل الإنسانُ الإنسانَ انطلاقا من مُعتَقَد خاصّ هو غالبا ديني ـ عنصُري؟ علما أن الطبيعة لا تُعذّبه. وأن ما وراء الطبيعة لا يعذبه أيضا، وأن أسبابَ شقاء البشر ليست إلهية، وليست شيطانية، وأنها تصدر عن الإنسان ذاتِه، ومنه هو ذاتُه.
لماذا لا يكون شقاءُ الإنسان الشّغلَ الشّاغلَ الأوّل للإنسان، إذا كان إنسانا حقا؟
وبأيِّ عَدْل إذا أو دين يمكن العربيّ اليوم، أن يكره الفكرَ أو التعقُّلَ العلمانيّ، أو الحقوق المدنيّة، أو الحريات، أو يقبل بعدم المساواة بين الرجل والمرأة، أو بثقافة التكفير؟ أليس هذا كله رفضا للإنسان ذاته؟”.
الكائن البشري وعيه متدن، وهو مقيد ضمن محدوديته، فلا يرى ما هو خارجه إلا انطلاقا من ذاته ومن مصلحته ومن معياره ومن قيمه ورغباته
الإجابة المباشرة على السؤال الأخير بالذات، بلى إنه رفض للإنسان، ولكن هذا ليس من قبل الإنسان نفسه. وإنما من قبل الكائن البشري الذي لم ينضج ولم يصل بعد إلى مرحلة الإنسان. هذا يحيلنا، إجبارا، إلى التمييز بين ما هو بشري وما هو إنساني، وما إذا كنا نتحدث عن إنسان أم عن بشر. قد تبدو هذه من قبيل المترادفات، لكنها ليست كذلك.
عمل إضافي
في أي مكان تنتشر الكراهية ويسود منطق الغلبة والعنف فاعلم أنه وإن يكن هناك بشر فإنه لا يوجد إنسان. فالإنسان ليس نتاجا لعملية بيولوجية كما يحدث مع سائر المخلوقات، بما فيها الكائنات البشرية. ولا يكفي وجود أبوين لخلق إنسان. الإنسان هو أعلى مرحلة في سلسلة تطور المخلوقات وهو نتيجة عمل إضافي يمر به الكائن البشري كي يتحول إلى إنسان.
فالكائن البشري من الناحية الجوهرية لا يختلف عن باقي المخلوقات، إذا تعلق الأمر بالوظائف الرئيسية، مثل الحركة والتكاثر والسعي للحصول على الطعام والاستحواذ على وسائل إنتاجه… إلخ. وحتى العقل واللغة لديه هما بمثابة الحواس التي عوض بها نقصه الجسماني كي تساعده في الصراع من أجل البقاء.
بينما الإنسان من الناحية الأخرى يتفرد من بين المخلوقات، من بين ما يتفرد، بإدراك أنه من أجل أن يبقى فإنه لا يحتاج إلى أن يخوض أي صراع. لأن فكرة الصراع والعنف الناجم عنه لا تليقان بالإنسان. فالبقاء ليس مرتبطا بأي من الوظائف الرئيسية تلك. إنه بقاء مستمر ومستمد من قيمة أعلى من الوجود نفسه.
بمعنى أن وجود الإنسان ليس مرتبطا بما يحيط به من موجودات، سواء كانت في يديه أو في أيدي الآخرين، وإنما في إدراكه بأن وجوده الحقيقي ليس معرضا للتهديد من أي شيء، لأنه لم يبدأ كي ينتهي.
الإنسان والبشر
في منطقتنا العربية، كما في مناطق أخرى في العالم، يمكن للمرء أن يجد الكثير من البشر حقا، ولكن ليس من السهل العثور على إنسان.
ما الذي يميز الإنسان عن الكائن البشري؟ الإنسان يملك وعيا متطورا وهو يستطيع أن يخرج من حيزه الصغير وأن يتجاوز ذاته، إلى ما هو أبعد منها، فيرى كل ما في الحياة، بما في ذلك الآخرين من منظورهم أيضا وليس فقط من منظوره الشخصي. وهو حين يفعل ذلك لا يمكن أن ينشأ بينه وبينهم أي تعارض أو تناقض. فاختلاف الآراء أو الأفكار هو اختلاف في زاوية النظر للأشياء وفي التجربة الشخصية لكل واحد، وليس اختلافا في الجوهر أو الأصل الكامن في كل منهم.
كل كائن بشري هو مشروع إنسان وبإمكانه أن يتطور في هذا الاتجاه والذي هو الغاية من وجوده
بينما الكائن البشري وعيه متدن، وهو مقيد ضمن محدوديته، فلا يرى ما هو خارجه إلا انطلاقا من ذاته ومن مصلحته ومن معياره ومن قيمه ورغباته. بالنسبة له فإن الآخرين ذوات منفصلة ومنافسة، إما أن يخضعوا لمصلحته ومعياره ويوافقونه الرأي، وإلا وجب عليه مواجهتهم والتغلب عليهم بطريقة من الطرق. والحروب والنزاعات والمشاحنات والمكايدات ليست سوى تعبير عن هذا الاتجاه، وإن لم تكن التعبير الوحيد، وإن اتخذت لها أسماء أو عناوين شتى.
رحلة التحول
وبالعودة إلى أسئلة أدونيس، فإن الذي يرفض الفكر ويرفض التعقل العلماني أو الحقوق المدنية أو الحريات أو الذي يرفض الآخر ليس هو الإنسان هنا، ولكنه الكائن البشري. والذي يقتل ويمارس العنف اللفظي والجسدي على هذا النطاق الواسع، والمنفلت من كل عقال، هو أيضا الكائن البشري وليس الإنسان.
وقد كان من المتصور أن الأديان أو العقائد المختلفة تساعد الكائن البشري في التحول إلى إنسان. لكن من الواضح أنها، في حين قد توفر له هذه الإمكانية، فإنها لا تضمنها. بل أكثر من ذلك فإن الكائن البشري يستخدمها هي الأخرى لضمان تفوقه وإخضاعه للآخرين.
لحسن الحظ فإن كل كائن بشري هو مشروع إنسان وبإمكانه أن يتطور في هذا الاتجاه والذي هو الغاية من وجوده. ولعل أول خطوة على هذا الطريق هي أن يراقب المرء أفكاره وأقواله وأفعاله ومشاعره كي يعرف بالضبط أين موقعه في هذا السلم. فمتى عرف ذلك أصبح من السهل عليه أن يبدأ رحلة التحول.