عمران سلمان – الحرة – 12 يونيو 2020/
يثير الحديث عن يهود الخليج، وقد كثر في الآونة الأخيرة بصورة ملحوظة، مشاعر متضاربة لدى الكثيرين. فمن جهة هناك النزاع العربي/الفلسطيني/الإسرائيلي الممتد لأكثر من سبعين عاما، ومن جهة أخرى هناك توجهات خليجية متزايدة للتقارب مع إسرائيل، وهناك من جهة ثالثة اليهود الخليجيون أنفسهم الذين ليس لهم بالضرورة علاقة بكل ذلك، فهم مثل غيرهم من البشر الذين عاشوا في هذه المناطق عبر التاريخ واندمجوا مع سكانها، ثقافة ولغة وفنا واقتصادا وعلاقات اجتماعية. هذا المقال يركز على الجزئية الثالثة بالتحديد.
سوق المنامة
لقد ولدت ونشأت في البحرين، ومثل كثيرين غيري من البحرينيين لم نكن نعرف أو نسمع عن وجود اليهود في البلاد، وبالطبع لم نكن نعرف شيئا عن تاريخهم أو ثقافتهم. بالنسبة لي حدث ذلك بالصدفة المحضة.
فقد كنت في أواخر التسعينيات أكتب مقالا أسبوعيا في جريدة الراية القطرية، إلى جانب صحف أخرى. وكانت الجريدة ترسل لي في نهاية كل شهر شيكا بالمبلغ. وكنت أحتار في كيفية صرفه، لأن البنوك وشركات الصرافة العادية ترفض التعامل مع الشيكات. إلى أن أشار علي صديق بأن أجرب شركة البحرين للخدمات المالية. بالفعل توجهت إلى فرعها الكائن في الشارع الرئيسي من سوق المنامة القديم، وهو مكتب صغير. وقد قبلوا صرف الشيك لي بكل سهولة. وأنا في المكتب لفت نظري وجود رجل كبير السن يجلس هناك لوحده بكل هدوء بعيدا عن الموظفين، بثوبه البحريني المميز وغترته، ولم يكن يبدو عليه أي اختلاف عن أي بحريني، ربما باستثناء بشرته التي كانت تميل أكثر إلى البياض. عرفت فيما بعد أن هذا الرجل هو صاحب المكتب داوود إبراهيم نونو، أحد اليهود البحرينيين، رحمه الله، (توفي عام 2018).
صالح وداود الكويتي
كان ذلك بالطبع مدعاة للفضول للتعرف أكثر على تاريخ وحاضر اليهود اليحرينيين، ولم يكن عددهم يزيد وقتها عن 50 شخصا، لكن انشغالاتي وانتقالي للعمل مع قناة الجزيرة في منتصف عام 2000 في الدوحة، حال دون ذلك، وإن كنت قد بدأت أقرأ وأعرف أكثر عنهم، وأزداد استغرابا لمعرفة أنه كان لديهم في البحرين كنيسا ومقبرة يهودية، لا يزال مكانهما موجودين حتى اليوم، والفضل في ذلك يعود للحكومة البحرينية. (يوجد الكثير من المعلومات على الإنترنت عن يهود البحرين لمن أراد الاستزادة).
لم يقتصر تأثير صالح الكويتي على الأغنية العراقية فحسب، فقد لحن لأبرز المطربين الكويتيين في ذلك الوقت مثل عبد اللطيف الكويتي وأيضا البحرينيين مثل محمد بن فارس ومحمد زويد
في الآونة الأخيرة قضيت بعض الوقت في مشاهدة مقابلات على اليوتيوب أجرتها الناشطة اليهودية العراقية (نيران سليم البصون) مع عدد من اليهود الذي غادروا مدن العراق في سنوات مختلفة (مثل الناصرية والعمارة والبصرة وعانة والفلوجة وبغداد وغيرها)، وهي تعتبر بحق شهادات تاريخية مؤثرة، أنصح بمشاهدتها. وكان من بين تلك المقابلات واحدة ملفتة للنظر مع شالوم أو سليمان الكويتي، والتي تحدث فيها عن والده صالح الكويتي وعمه داوود الكويتي.
لقد كان بمثابة معلومة جديدة بالنسبة لي أن أعرف أن صالح الكويتي يعتبر هو مؤسس الأغنية العراقية الحديثة. ومعظم إن لم يكن جميع ما نعرفه حاليا من أغاني تراثية عراقية خالدة من قبيل “عمي يا بياع الورد” و”خدري الشاي خدريه” وغيرها إنما كانت من ألحان صالح الكويتي. أكثر من ذلك فقد كان صالح وأخوه داوود من مؤسسي الإذاعة العراقية، وقد وضعا ألحانا وقدما أغان اقترب عددها من الألف لمعظم مشاهير المطربين في ذلك الوقت. أما تسمية الكويتي فلأنهما ولدا في الكويت وعاشا فيها حتى سن الـ17. وقد غادر صالح وأخوه الكويت واستقرا في العراق منذ ذلك الحين، حتى تاريخ مغادرتهم إلى إسرائيل في عام1951 بعد أن أسقطت عنهما الجنسية العراقية.
دعم الأغنية الخليجية
لم يقتصر تأثير صالح الكويتي على الأغنية العراقية فحسب، فقد لحن لأبرز المطربين الكويتيين في ذلك الوقت مثل عبد اللطيف الكويتي وأيضا البحرينيين مثل محمد بن فارس ومحمد زويد، إضافة إلى مطربين من الشام ومصر وإيران.
وفي وقت لم تكن توجد فيه استوديوهات أو أجهزة لتسجيل الأغاني والموسيقى في الخليج، فقد كان المطربون يذهبون إلى البصرة كي يسجلوا أغانيهم في استوديوهات يملكها نظراؤهم من الفنانين اليهود.
المؤسف أن هذا الأمر، رغم أنه سابق على النزاع العربي الإسرائيلي ولم يكن يهود الخليج معنيون به على أية حال، إلا أن الأخير انسحب عليهم بشكل سلبي وفي الغالب غير مبرر
وبحسب ما تذكر نانسي إيلي خضوري، اليهودية البحرينية في كتابها “من البداية إلى يومنا هذا” المؤلف بالإنكليزية، فقد كان “أبراهام إسحق سويري” أول من أسس شركة فنية في البحرين تحت اسم “إبراهيم فون” والتي كانت تسجل أغاني مطربي الخليج، ثم ترسل التسجيلات إلى الهند كي يتم وضعها على اسطوانات ومن ثم توزع في دول الخليج وخارجها.
لم يقتصر الأمر على الفن، فقد نشطت العائلات اليهودية في الأعمال التجارية على نحو مميز. فبالإضافة إلى الصرافة والتحويلات المالية، وتجارة الأقمشة والعطور والسيارات والوكالات المختلفة…إلخ، فقد كان لليهود دور ملموس في التعليم والطبابة والرياضة وغيرها، إضافة إلى مشاركتهم في الشؤون البلدية والأجهزة الإدارية المختلفة.
إعادة الاعتبار لليهود
الواقع أنه عندما يتعلق الأمر باليهود الذي عاشوا أو لا يزالون في العراق أو الخليج أو اليمن فإن هناك الكثير مما يمكن الحديث عنه، وبما يتعدى المجال في هذ المقال. ورغم أنه لا توجد سوى معلومات رسمية قليلة، متاحة للأجيال الحالية، عن حياتهم وثقافاتهم، إلا أن الإسهامات التي تركوها، كانت كبيرة بطريقة أثرت على مسار تطور مجتمعات المنطقة.
المؤسف أن هذا الأمر، رغم أنه سابق على النزاع العربي الإسرائيلي ولم يكن يهود الخليج معنيون به على أية حال، إلا أن الأخير انسحب عليهم بشكل سلبي وفي الغالب غير مبرر. وقد حمّلوا جريرة قضية لم يكونوا طرفا فيها، ولم يستشرهم فيها أحد. لكن ثمة جانبين كان من الصعب على من حاولوا بمكر طمس ذلك الإرث أن يبقوهما طي الكتمان، الأول هو الفن والثاني هو التجارة. وربما حان الوقت لإعادة الاعتبار للأسماء والعائلات اليهودية التي ساهمت في بناء وازدهار دولنا الخليجية من دون خجل أو مواربة. وسوف تفعل دول الخليج والعراق واليمن خيرا إن هي سمحت لمواطنيها السابقين أو أبناءهم بزيارتها إن هم شاؤوا ذلك. فهذا جزء بسيط من حقوقهم علينا جميعا.