“الهراء” السياسي حين يتصدر العناوين!

عمران سلمان – الحرة – 19 يونيو 2020/

يحار الإنسان في تفسير كل هذا “اللامعقول” الذي يتفوه به بعض السياسيين وزعماء الدول هذه الأيام. هم لا يفعلون ذلك من باب الهزل أو المزاح أو لخلق جو من الدعابة مثلا. كلا، إنهم جادون وفي قمة وعيهم. وهم لا يحتفظون بما يقولونه لأنفسهم أو في دوائرهم المغلقة، وإنما ينشرونه على الملأ عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة. فما هو تفسير ذلك؟

تفسيرات عجائبية

لم نكد نستفيق من نظريات المؤامرة والتفسيرات الغريبة وراء انتشار وباء كورونا، حتى عاجلنا هؤلاء بما هو أغرب في تفسير حادث القتل العنصري في مينيابوليس.

ضاحي خلفان، نائب قائد شرطة دبي، يعزو ما يحدث في أميركا اليوم ـ أي ردة الفعل على حادث مينيابوليس ـ إلى التعاون بين الديمقراطيين وجماعة الإخوان المسلمين. بالنسبة له فإن الديمقراطيين والإخوان هم الذين تسببوا في “تأجيج” ما عرف فيما بعد بموجة الربيع العربي، وهو يقول “اليوم تعاد الأمور في أمريكا. يتعاون الديمقراطيون مع الإخوان والفعل نفسه: شرطة تتسبب في قتل مواطن أمريكي. الهدف: إسقاط ترمب”.

كل هذه التصريحات الغريبة، هي مقصودة ومدروسة بعناية، بهدف التضليل وخلق انطباع مرغوب فيه أو صرف النظر عن انطباع غير مرغوب

أما الرئيس التركي رجب طيب إردوغان فقد أقسم بأغلظ الإيمان على وجود علاقة بين منظمات الأكراد في بلاده وفي شمال شرق سوريا بهؤلاء الذين يتظاهرون في المدن الأميركية على مقتل جورج فلويد، ويطالبون بإنهاء الممارسات العنصرية.
وقال الرئيس التركي “التعاون بين بي كا كا/ي ب ك، ومنظمة أنتيفا، الإرهابية أمر ذو دلالة، وأبلغت السيد ترامب بذلك، كما أن الدعم الذي يتلقونه هؤلاء ذو دلالات أيضا”.

طرف سياسي

أما الرئيس دونالد ترامب فبالنسبة له كل شيء ملفق ما لم يصب في مصلحته أو يتفق مع آراءه. فأن تدفع الشرطة في نيويورك مسنا فيسقط على الأرض وهو ينزف ويتم تجاهله، فهذا حادث ملفق دبره الرجل السبعيني بنفسه (بدليل ـ والحديث هنا لترامب ـ أنه وقع بصورة أقوى مما تحتمله الدفعة. ولا أدري كيف تمكن من قياسها!). وأن يخرج مئات الآلاف من الأميركيين، من مختلف المشارب والاتجاهات لكي يدافعوا عن القيم الأميركية، ويشجبوا عنف الشرطة والممارسات العنصرية، فهذا تدبير من المنظمات اليسارية والمناهضة للفاشية… إلخ.

المؤسف أن الرئيس ترامب لا يتصرف حاليا كرئيس لكل الشعب ولكل البلاد وإنما يعتبر نفسه طرفا في صراع سياسي، وهو يوجه طاقته وجهوده كلها في هذا الاتجاه. ويمكن أن يكون ذلك مقبولا في الأوقات العادية، لكن في الأزمات الكبرى فإن ما يتوقعه الناس من رئيسهم هو الارتقاء إلى مستوى الحدث والتصرف كزعيم للبلاد كلها.

الواقع الموازي

حسنا كيف يمكن أن يتعامل أي إنسان عادي مع هذه الهستيريا السياسية التي تنطلق من مسؤولين وزعماء في دول يفترض أنهم يزنون ما يقولون ويتحدثون انطلاقا من المعلومات والحقائق؟

الأمر محير دون شك. وما أسهل الجري خلف نظريات المؤامرة فهي دواء لكل داء سياسي! ولكن إحدى الفرضيات التفسيرية هي أن هؤلاء ربما يعيشون في حالة انفصال تام عن الواقع. هذه الحالة معروفة في علوم النفس والاجتماع والسياسة. وهي ترتكز على خلق واقع ذهني موازي للواقع الذي نعيش فيه، بحيث تكون قدرة الأفراد الفاعلين على تشكيل هذا الواقع والتلاعب فيه كبيرة وغير مقيدة، وأكبر مما يستطيعون أن يفعلوه في الواقع الفعلي. ومهمتهم الحقيقية تكمن في الترويج بكل قوة ودأب لهذا الواقع الموازي.

لمهم هنا هو ليس ما إذا كان القول يحمل أية حقيقة أو معلومة صحيحة، وإنما الهدف هو إقامة الصلة أو الربط بين حادث ما، وبين فكرة يريد القائل لها أن تنتشر أو تتداول

في السبعينيات افترض الفيلسوف “جان بودريلارد” أن الحداثة قد انتهت عندما أصبحنا مهووسين بمحاكاة الحياة، مثل التلفزيون. ووصف الفترة الجديدة بـ”ما بعد الحداثة”، وهي فترة من “الواقعية” المفرطة ـ عندما يبدو التقليد أكثر واقعية من الواقع نفسه ـ وتنبأ بأن التمييز بين الحقيقة والخيال سيكون ضبابيا حتى يزول.

التلاعب والتضليل

ثمة تفسير آخر، وشخصيا أميل إليه، وهو أن كل هذه التصريحات الغريبة، هي مقصودة ومدروسة بعناية، بهدف التضليل وخلق انطباع مرغوب فيه أو صرف النظر عن انطباع غير مرغوب. فالمهم هنا هو ليس ما إذا كان القول يحمل أية حقيقة أو معلومة صحيحة، وإنما الهدف هو إقامة الصلة أو الربط بين حادث ما، وبين فكرة يريد القائل لها أن تنتشر أو تتداول، أو على الأقل تتنافس مع أفكار أخرى رائجة.

فعلى سبيل المثال، معظم الناس يعلمون أنه لا يمكن أن تكون هناك أية علاقة من أي نوع بين الحزب الديمقراطي والإخوان المسلمين أو بين المتظاهرين الأميركيين والمنظمات الكردية، ومع ذلك فإن الربط بينهما في جملة واحدة، وعندما يصدر من مسؤول في دولة من الدول، فإنه يدفع بعضا ممن يستمعون أو يقرأون هذا التصريح، إلى الاعتقاد (وإن على سبيل الافتراض) بوجود مثل هذه الصلة. وإذا كان هذا التصريح محظوظا بما فيه الكفاية، فقد تتحول جميع الآراء في القضية الواحدة إلى مجرد وجهات نظر، لا أكثر ولا أقل!

وبطبيعة الحال، فإنه ليس المهم هنا هو إيراد الأدلة أو الاثباتات. مجرد إطلاق الفكرة نفسها يكفي. من المؤسف أن هذا النمط من التلاعب والتضليل بات منتشرا في السنوات الأخيرة، ومن المتوقع أن يتعاظم في الفترة المقبلة مع تراجع الخشية من الوصم باللامعقول أو العته السياسي.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *