بقلم / عمران سلمان – 18 يونيو 2024/
بعيدا عن تصنيفات اليسار واليمين – المتطرف وغير المتطرف، من الواضح أن العالم أو بالأحرى أجزاء واسعة منه تشهد انزياحا باتجاه التمسك أكثر بالهوية المحلية والسيادة الوطنية للدول، ويتجلى ذلك واضحا في الصعود المستمر للأحزاب التي تناهض المهاجرين وسياسات الانفتاح وما تفرزه الجوانب الثقافية من العولمة.
وقد أظهرت نتيجة انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة هذا المنحى، حيث حصلت كتلة اليمين عموما على النسبة الأكبر من المقاعد، فيما سجلت أحزاب اليمين “المتطرف” زيادة في عدد المقاعد بحصولها على المركز الأول في إيطاليا وفرنسا والثاني في هولندا وألمانيا.
وهذا المنحى هو تتويج للعديد من الانتخابات التي جرت خلال السنوات الأخيرة في الدول الأوروبية التي إما أنها عززت من مكانة أحزاب اليمين (مثل المجر) أو أتت بها إلى السلطة مثل إيطاليا وهولندا والسويد أو وضعتها على الخارطة السياسية مثل فرنسا والمانيا.
وفي فرنسا يتوقع على نطاق واسع أن يفوز حزب التجمع الوطني بأغلبية المقاعد في الانتخابات التشريعية المبكرة التي ستجرى في 30 يونيو/حزيران و7 يوليو/تموز، وأن يصبح رئيسه الشاب جوردان بارديلا رئيسا للحكومة.
ملف الهجرة
الواقع أنه من الصعب عدم ملاحظة أن الاتجاه نحو اليمين في أوروبا والمستمر وإن بصورة تدريجية يتوازى مع ظاهرة أخرى وهي تزايد نسبة الهجرة والتي هي أيضا في ارتفاع وخاصة من البلدان العربية والإسلامية.
لا شك أن ثمة مصاعب اقتصادية وسياسية تجعل سكان العديد من البلدان الأوروبية يبحثون عن بدائل في البرامج والأحزاب والشخصيات المختلفة، وخاصة خارج نطاق أحزاب اليمين التقليدي واليسار وتحديدا الاشتراكي الديمقراطي، وهذه عوامل يجب وضعها أيضا في الحسبان.
لكن باعتقادي أن الدافع الأساسي وراء صعود أحزاب اليمين “المتطرف” المدافعة عن الهوية والسياسة الوطنية في هذه الدول هو ملف الهجرة واللاجئين.
ومشكلة الهجرة لها جانبان. الأول أنها وبالصورة التي تتم بها حاليا سواء من ناحية الأعداد أو الطريقة التي تجري من خلالها، تشكل حرفيا غزوا بشريا لأوروبا، دافعه الأساسي الاقتصاد، وهي بعيدة تماما عن المفهوم التقليدي للهجرة أو اللجوء والذي كان في السابق يتم من خلال إجراءات وسياسات خاضعة للسيطرة من قبل حكومات هذه الدول وبالتنسيق مع المنظمات الدولية.
اليوم فإن معظم هذه الدول تكافح من أجل السيطرة على ملف الهجرة غير الشرعية من دون نجاح يذكر، فهناك مشكلة في التعامل مع المهاجرين لدى قدومهم ومشكلة أخرى في منع دخولهم حدود الاتحاد الأوروبي ومشكلة ثالثة في ترحيلهم.
بعبارة أخرى فإن معظم الحكومات الأوروبية تعتبر فاشلة في التصدي لهذا الموضوع. والشعوب الأوروبية بدأت تشعر بوطأة هذه الأزمة، ليس فقط من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، ولكن أيضا من الناحية الأمنية، حيث أن خروج ملف الهجرة عن السيطرة يشعر مواطني هذه الدول بعدم وجود سيادة أو حكم القانون. والمأساة هي أن كل يوم يمر يصبح الوضع أسوء فأسوء.
تباين ثقافي
الجانب الآخر، هو الآثار الناجمة عن وجود أعداد هائلة من المهاجرين غير الشرعيين، الذين لا يشاطرون المجتمعات الأوروبية قيمها أو مبادئها. ولا يتعلق الأمر بالدين فقط، ولكن أيضا بالثقافات وأساليب المعيشة ومستوياتها والموقف من الدولة والمجتمع والمرأة وحقوق الإنسان.. الخ.
وتظهر العديد من الحوادث التي شهدتها بعض البلدان الأوروبية في السنوات الأخيرة (مشكلة أطفال المسلمين وحرق القرآن في السويد)
والقوانين الفرنسية المتعلقة بالإسلام السياسي و التظاهرة الأخيرة في ألمانيا والمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، فضلا عن الهجمات الإرهابية والتوترات الناجمة عن عشرات الاحتكاكات ذات الطابع المنخفض، تظهر أن أوروبا مقبلة على أوقات عصيبة قد تشهد صدامات ولا سيما في البلدان التي يشكل المسلمون والأجانب نسبة كبيرة من السكان. وأكثر ما يدعو للقلق هو غياب أي أفق لحل مشكلة عدم اندماج هؤلاء في بيئاتهم الجديدة مع بروز اتجاهات دينية متطرفة تسعى لاستغلال عجز حكومات هذه الدول لتجنيد الشباب وأدلجتهم.
بعبارة أخرى فإن تفاقم مشكلة الهجرة غير الشرعية هو سبب ميل المزاج الأوروبي نحو اليمين وخاصة المتطرف منه، حيث أن المقاربة التي يطرحها اليمين لعلاج هذه المشكلة تجعله في نظر قسم من السكان الأكثر جدية وحرصا على أمن ومصالح البلاد، وتجاوبا مع هواجسهم وقلقهم. وفي حين لا يتوقع أحد أن يتم حل مشكلة الهجرة غير الشرعية في أوروبا بصورة جذرية حتى لو فازت أحزاب اليمين بالسلطة (مع استبعاد أن تلجأ هذه الأخيرة إلى إجراءات راديكالية)، فإن صعود هذه الأحزاب ربما يمثل للبعض ضمانة بعدم تفاقم المشكلة أو على الأقل إبقاءها حية وتحت التركيز في الساحة السياسية على أمل أن يصار إلى معالجتها في المستقبل.
وهذا الاتجاه لم يعد أوروبيا فقط ولكنه أصبح عالميا.