بقلم/ عمران سلمان – 14 فبراير 2024/
إلى أن تحقق إسرائيل هدفها المعلن والمتعلق بالقضاء على حركة حماس، وتصفية وجودها المسلح، سوف تستمر معاناة سكان قطاع غزة والتي تتحول كل يوم إلى وضع يصعب وصفه.
والواقع أن مأساة سكان القطاع بسبب وجود حماس والفصائل المسلحة الأخرى ليست هي المأساة الوحيدة في المنطقة. فحيثما توجد الميليشيات ويوجد السلاح في أيدي الأفراد والجماعات المنفلتة توجد مأساة إما قائمة أو قادمة.
وهذه الميليشيات والجماعات تقضم من شرعية وسلطة الدولة التي توجد فيها بصورة تدريجية، وهي تؤسس لواقع يسوده الفوضى والفلتان المزمن، تسد معه كل إمكانية لإقامة أي نوع من الشرعية التي تؤسس لنظام سياسي مستقر ومتفق عليه.
المؤسف أن المزيد من الدول العربية أخذة في التشظي على هذا النحو وهناك اليوم سوق رائجة لهذه الميليشيات. ومن يعتقد أن وجودها مرتبط بسبب خارجي أو ما شابه فهو واهم. السبب الخارجي هو مجرد الحجة التي تنطلق منها هذه الميليشيات ولكنها ليست هي السبب الكامن خلف وجودها.
فهي جزء لا يتجزأ من نسيج مجتمعات المنطقة وبسبب الضعف البنيوي للدولة فهي تلعب دور الممثل والضامن للهويات المحلية المتصارعة، سواء كانت هويات دينية أو طائفية أو عرقية أو جهوية وما شابه ذلك.
بمعنى آخر فإن هذه الميليشيات هي بنى كامنة في نسيج الدولة العربية الحديثة وهي ناضجة وجاهزة للخروج من الشرنقة بمجرد أن تلمح ضعفا في بنية الدولة، الذي قد يحدث بفعل الثورات أو الانتفاضات أو أعمال التمرد أو الغزو الخارجي.
وهذا ما يفسر السرعة التي يتم من خلالها تأسيس الميليشيات وتنظيمها وتزويدها بالسلاح والأموال وقيامها بممارسة نشاطها بصورة مثيرة للعجب.
ولأن هذه الميليشيات هي الواجهة لصراع الهويات في المجتمع فإنها تجد الاحتضان والمساعدة الحاسمة من قبل المجموعات السكانية (وأحيانا الدول الخارجية) التي تمثلها، والتي تمدها في الوقت نفسه بأسباب بقائها واستمرارها، سواء تعلق الأمر بالمال أو الرجال.
ويخفي الاستقرار الكاذب عادة والذي يشبه القشرة الخارجية في العديد من المجتمعات العربية ما يعتمل بداخلها من صراعات. ويبدو لمن يتابعها من الخارج كما لو أنها واحة من الاستقرار والانسجام المجتمعي الذي لا يلبث أن يتفجر عند أول حركة احتجاج كبيرة. وإذا لم تتمالك الدولة نفسها وتسارع إلى قمع هذا الاحتجاج، أو إن هي فشلت في ذلك أو تراخت لأي سبب من الأسباب، فإن طلائع الميليشيات الأولى سرعان ما تبدأ بالظهور والانتشار بسرعة ومعها يبدأ تفلش الدولة والمجتمع تدريجيا، وتتبع ذلك عملية الانزياح الواسعة للسكان ضمن خطوط الهويات المتصارعة.
إن من يتتبع تجارب بعض الدول العربية مثل الصومال أو ليبيا أو سورية أو السودان على سبيل المثال يمكنه أن يلحظ ببساطة السيناريو الذي أتحدث عنه.
فجميع هذه الدول بهذا هويات متصارعة سواء كانت حول الدين أو الطائفة أو العرق أو القبيلة أو الجهة، والمجموعات السكانية المنتمية لها لم تنجح في تطوير أي تقاليد سلمية ومتحضرة لحل المشاكل الناجمة عن تلك الصراعات. وكانت الثورات أو الحروب هي القابلة التي ولدت عبرها الميليشيات التي لا تزال حتى اليوم تتصارع وإن بأشكال مختلفة، وتحافظ بصورة شرسة على خطوط تماسها التي تمثل بصورة أو بأخرى خطوط الصدع الهوياتي.
وهنا قد تبدو المشكلة ليست فقط في وجود الميليشيات ولكن في صراع الهويات وعدم القدرة على حله، وهذا ربما كان صحيحا من الناحية النظرية، أما عمليا فإن المشكلة الأكبر تتمثل في اللجوء إلى الميليشيات واستخدام السلاح واعتماد العنف.
لماذا؟
لأن وجود الهويات المختلفة هو جزء من تكوين البشر ولن ينتهي في أي وقت قريب. والصراع بينها هو أحد الاحتمالات الممكنة من بين الاحتمالات الأخرى.
لكن إدارة هذا الصراع في حال نشوبه بصورة سلمية وإمكانية حله أو التخفيف من وطأته بطرق متحضرة هو الذي يفرق من مجتمع إلى آخر.
السماح بظهور الجماعات المسلحة أو لجوء الأفراد إلى السلاح بخلاف الدولة أو ضد إرداتها، ولأي سبب كان، هو تعبير عن فشل هذه المجتمعات و هو مقدمة لإنهيارها.
وإضافة إلى الدمار والخراب الذي تنشره في المجتمع فإن القضاء على الميليشيات واستعادة الدولة لدورها من جديد يتطلب أضعاف القوة التي كانت لدى الدولة قبل انهيارها والكثير من الدماء والأموال. والعديد من المجتمعات التي تمر بهذا الطور للأسف ليس لديها ما يكفي من الحظ أو حسن الطالع كي تتمكن من فعل ذلك ولهذا تظل فريسة ونهبا للميليشيات والجماعات المسلحة ردحا من الزمن.
وتزداد الأمور تعقيدا إلى حد يستحيل وصفه في حال ابتلعت الميلشيا الدولة أو هيمنت عليها فإن القضاء عليها أو تخليص أحدهما من الآخر يحتاج إلى معجزة وتضحيات لا حدود لها، كما هو الأمر حاليا في غزة مع حماس أو ما يمكن أن يحدث في لبنان مع حزب الله.