الاستعمار في العقلية العربية

بقلم/ عمران سلمان – نقطة ومن أول السطر – 23 ديسمبر 2023/

مر على استقلال آخر دولة عربية من الاستعمار تقريبا خمسة عقود، في حين نالت معظم الدول العربية استقلالها قبل ذلك بسنوات، مع هذا لا يزال الاستعمار يعشعش في الذهنية العربية ولا يستنكف الكثير من الكتاب والصحفيين العرب عن لوم الاستعمار في تخلف دولهم وانخراطها في الحروب والنزاعات البينية كلما حانت مناسبة لذلك. كما لو أن قصة هذا الاستعمار لم تنته ولن تنتهي من التفكير والخطاب العربي.

وهذا يذكرني بالحديث المضحك الذي لا ينتهي هو الآخر عن قصة أميركا والهنود الحمر. وهو أيضا موضوع محبب للعديد من الكتاب والصحفيين العرب. ففي غمرة الحماس ينسى هؤلاء أن هذا الموضوع ليس وليد الأمس وان عمره عدة قرون. وجزء كبير منه حدث على يد المهاجرين الأوروبيين الأوائل وقبل تأسيس الدولة الاميركية، في حين تكفلت الأمراض التي جلبها الرجل الأبيض معه لأميركا الشمالية بموت الكثير من السكان الأصليين.

والاستعمار لم يكن فقط في الشرق الأوسط ولكنه طال أجزاء كبيرة من العالم القديم. ويمكن ضم الإمبراطورية العثمانية إلى تلك المرحلة حيث استعمرت شرق أوروبا على سبيل المثال لمدة تزيد على أربعة قرون.

ومع ذلك من النادر أن تجد بين هذه الشعوب بكائين وندابين يلومون الاستعمار في مشاكلهم كما نفعل نحن العرب.

الأغرب من ذلك أنهم يتحدثون دوما عن نهب خيرات وثروات هذه الدول من قبل الاستعمار. ولا شك فإن الدول الاستعمارية استفادت من استعمارها للعديد من البلدان ولا سيما فيما يتعلق بالموقع الجغرافي والحصول على بعض المواد الخام اللازمة للصناعة والتجارة في ذلك الوقت، ولكن هناك الكثير من المبالغة في هذا الأمر.

كما أن شكل الثروة نفسه قد تغير عبر الزمن ولا يمكن اليوم اعتبار العديد من المواد الطبيعية بمثابة ثروات. ربما هي سلع مهمة ولكنها لا تجلب الثراء للبلدان المصدرة لها.

وفي بعض الحالات كانت الدول التي تغزو دولا أخرى تصرف من خزائنها أكثر بكثير مما يمكن أن تحصل عليه في المقابل. وفي حالات أخرى تكفلت الدول الاستعمارية ببناء البنى التحتية في البلدان التي استعمرتها مثل المستشفيات والجامعات وسكك الحديد وإنشاء أجهزة الدولة ووضع القوانين والتشريعات.

بهذا المعنى فإن الاستعمار ولا سيما الحديث منه لم يكن شرا خالصا، بل حمل معه بعض الفوائد. ومن المفارقات أن أوضاع العديد من الدول العربية وقت الاستعمار كانت أفضل بكثير إذا قورنت بأوضاعها اليوم. فالنخب المحلية التي استلمت الحكم في هذه البلدان، ولا سيما التي جاءت عبر الانقلابات العسكرية عجزت عن إدارتها وحولتها إلى دول فاشلة.

وعلى سبيل المثال فإن العراق لم يكن له وجود كبلد حتى الحرب العالمية الأولى، حيث كان ولايات تابعة للدولة العثمانية، وبريطانيا هي من أنشأت العراق الحديث وهي التي جاءت بفيصل بن الحسين ونصبته ملكا عليه، وساعدته على بناء الجيش والأجهزة المختلفة للدولة. ولو استمرت الملكية في العراق لكان وضعه مختلفا اليوم.

ثم بعد أكثر من نصف قرن وفي ضربة حظ قدرية أخرى جاءت الولايات المتحدة للعراق وأطاحت بنظام صدام حسين الوحشي والبائد وقدمت للعراقيين فرصة أخرى لبناء بلدهم على أسس حديثة. للأسف في الحالتين لم يحسن العراقيون استغلال ما قدم لهم ولم يكونوا جاهزين له وسرعان ما ارتدوا لعقلية الطوائف والقبائل وداحس والغبراء والقتل والنهب والسلب.

بعض العرب يعتقدون بأن الولايات المتحدة ذهبت للعراق لنهب ثرواته! ولكن الحقيقة أنها هي التي قدمت من خزائنها مبالغ طائلة وصرفتها في العراق وبحسب بعض التقديرات بلغت هذه المصاريف قرابة تريليوني دولار ولم تجني شيئا تقريبا.  

مثال آخر على أن الاستعمار لم يكن شرا خالصا هو الأردن الذي يدين بوجوده اليوم إلى بريطانيا. فقبل عشرينات القرن الماضي لم يكن له وجود، وكان جزءا من فلسطين الانتدابية والتي كانت تشمل أيضا إسرائيل والأراضي الفلسطينية وحتى الحدود مع العراق (وقبل ذلك كانت المنطقة مقاطعات عثمانية). وقد طلب الملك عبدالله بن الحسين من بريطانيا أن تنشىء له إمارة في شرق نهر الأردن. وقد استجابت لطلبه وفي غضون عشرين عاما تقريبا وبمساعدة البريطانيين نجح في تحويلها إلى دولة، الأمر الذي مكنها من الحصول على الاستقلال وظهور المملكة الأردنية الهاشمية بمجرد انتهاء الانتداب البريطاني في الأربعينات.

فهل نهبت بريطانيا مثلا ثروات الأردن أم أنها هي التي قدمت له المساعدة؟ ولاتزال الولايات المتحدة حتى اليوم هي التي تقف وراء الأردن وتحميه وتدعمه عسكريا واقتصاديا مع حلفائها في الخليج. وهذا هو سر بقاء الاقتصاد الأردني والدينار الأردني مستقرا رغم الظروف الصعبة التي يعيشها والذي لولا تحالفه مع الولايات المتحدة لكان حاله مثل سورية أو لبنان أو دول عربية فاشلة أخرى.

قصارى القول بأن الاستعمار يظل بطبيعة الحال علاقة مرفوضة لأنه يمكّن دولة من الهيمنة على دولة أخرى، ولكنه ليس شرا خالصا وله بعض الفوائد إذا أحسن استغلالها، والأهم أنه ينتمي إلى حقبة تاريخية انقضت وطويت صفحتها ولا يمكن التذرع به أو استخدامه حجة لتبرير فشل المجتمعات في إنشاء دول حديثة. الأجدى أن تنظر هذه المجتمعات إلى نفسها في المرآة وتبحث عن أسباب فشلها من داخلها وهي كثيرة.    

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.