بقلم/ عمران سلمان – نقطة ومن أول السطر – 15 ديسمبر 2023/
خطاب المظلومية ليس مجرد صرخة احتجاج عابرة، ولكنه طريقة في التفكير تجعل من الإنسان على الدوام ضحية للآخرين ولأفعالهم، وهدفه النهائي نفي كل مسؤولية لهذا الإنسان عن صنع واقعه أو التأثير فيه. خطاب المظلومية بهذا المعنى هو أحد الميكانيزمات الدفاعية (غير الواعية) التي يلجأ إليها الإنسان العاجز في مواجهة أطراف أقوى منه وأكثر قدرة على التأثير في واقعه. إنه الطريقة التي يرد بها “الضعيف” في اللحظة التي يعجز فيها عن كل رد آخر!
وأكثر ميدان يتجلى فيه هذا الخطاب هو ميدان السياسة وتحديدا في مجال إدارة العلاقة بين كل ما هو “عربي” وكل ما هو “غربي”!
وأحيانا يخيّل للإنسان أن خطاب المظلومية هو رائج فقط بين عامة الناس في مجتمعاتنا، لكن الحقيقة هي أنه جزء رئيسي في تفكير العديد من المثقفين و”المفكرين” والكتاب والمحللين وحتى بعض صنّاع السياسة.
ويكفي متابعة ما ينشر في وسائل الإعلام العربية من مقالات ومقابلات وغيرها من المواد الإعلامية، حتى يتكشف لنا المدى الواسع الذي يسيطر فيه خطاب المظلومية على الطريقة التي نفكر بها و الأدوات التي نستخدمها في هذا التفكير.
على سبيل المثال الحرب الحالية في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس.
المنطق السليم سوف يفسر هذه الحرب بالطريقة التي وقعت فيها بالضبط من دون زيادة أو نقصان، وهي أن حماس شنت هجوما على إسرائيل في 7 أكتوبر وأعلنت الحرب عليها، فردت إسرائيل بإعلان الحرب والقيام بحملة عسكرية واسعة في قطاع غزة للقضاء على الحركة. وذلك بصرف النظر عما حدث أو سيحدث فيها.
أي ببساطة شديدة لو لم يقع هجوم حماس لما اندلعت هذه الحرب من الأساس.
ربما تندلع حروب أخرى في المستقبل كما اندلعت في الماضي ولكن سبب الحرب الحالية معروف وواضح ومباشر. وقد بث على الهواء مباشرة في التلفزيون ورآه العالم أجمع.
مع ذلك فإن خطاب المظلومية لا يقتنع ولا يأخذ بهذا التفسير الواقعي للأحداث، لماذا؟
لأنه بمجرد أن يعترف الإنسان بالواقع فهذا يجعله يتحمل مسؤولية أفعاله أو يشارك في تحملها على الأقل، وهذا يسير عكس خطاب المظلومية الذي يريد أن “ينقذ” النفس ويلصق “المشكلة” بالآخر.
وفي حالتنا هذه فإن الغالبية الساحقة من الخطاب العربي يتحاشي تحميل حماس ومن يؤيدها أية مسؤولية فيما جرى ويرمى بالحمولة كلها على ظهر إسرائيل وأميركا. وحتى في الحالات التي لا مجال فيها للإنكار يتم استحضار التاريخ وما بعد التاريخ وما بعد بعد التاريخ!
الأكثر من ذلك أن هناك من توسع كثيرا في تفسير هذه الحرب فأصبحت بنظره “حربٌ إقليميةٌ للحفاظ على السيطرة الأميركية على الشرق الأوسط ..”.
وبنظره أيضا فإن “غزّة هي اليوم بؤرة الصدام ومسرح العمليات لإعادة الاعتبار لهذه القوة الأميركية المركزية والمتمسّكة بالسيطرة والأحادية القطبية، بمقدار ما أنّ ردع إسرائيل العرب ومحو الأثر السلبي لطوفان الأقصى على صدقية هذا الردع هو الشرط الضروري لإجبار العرب على الاستمرار في الالتحاق بالغرب، وبواشنطن بالذات..”.
ووفق هذا الخطاب أيضا فإن وجود إسرائيل نفسها هو “ثقب أسود يبتلع جميع جهود العرب الفكرية والبشرية والمادية لقرن كامل، وحكم عليها بالتراجع والتخلّف والتقهقر في جميع الميادين، بمقدار ما جعل من إخضاع شعوبها لهذه الأجندة جوهر أجندة السياسة العالمية، والغربية خصوصا، في الشرق الأوسط”.
ودور إسرائيل الأساسي في المنطقة هو “قوة ردع للحكومات والشعوب العربية وعصا غليظة يمكن توظيفها لضرب أي محاولة جدّية للتحرّر من هيمنتها أو القضاء على أي حالم بسياسة مستقلة تضع مصالح شعبه وأمته في المقدّمة أمام المصالح الاستعمارية”.
لا شك أن هذا الخطاب ليس جديدا، وأكاد أشعر بالقارىء – خاصة لمن عاش ما يكفي في المنطقة وعاصر من أحداثها الشيء الكثير- إذ هو يتمتم بأن هذا الخطاب وأمثاله هو استحضار للميت من السردية اليسارية والقومجية، والواقع أن كل خطاب في هاتين السرديتين هو خطاب ميت بالضرورة، لكن الأكثر غرابة هو أنه مع مواته يعتبر الأكثر حضورا واستخداما في الإعلام والذهنية العربية والإسلامية!
وكما هو بيّن مما اقتطفته أعلاه (وهو من مقال واحد فقط) فإن المسؤولية الأساسية في كل ما حدث ويحدث للعرب هو بسبب واحدة من هؤلاء أو كلهم مجتمعين: أميركا، إسرائيل، الأمبريالية، الغرب، الرأسمالية، الصهيونية، الماسونية، الأنظمة الديكتاتورية .. الخ.
ماذا عن مسؤولية العرب كافراد أو مجتمعات أو حكومات في اقتتالهم وخلافاتهم وشقاقهم وعدائهم لقيم الحداثة والتحضر؟ لا شيء.