عمران سلمان – الحرة – 31 يوليو 2020/
أتصور أن أي شخص من فضاء الديانات الإبراهيمية، لا بد أنه فكر أو تساءل علنا أو بينه وبين نفسه عن مفهومي “الجنة” و”النار”. هل هما مكانين ماديين، أي يمكن الإشارة إليهما، أم هما ضمن عالم الغيب مثلا ولكن يظلان في حيز مادي، أم أنهما مجرد رمزين لا يعنيان بالضرورة المعنى الحرفي لكلا الكلمتين.
أسئلة مشروعة
بالنسبة للذين يتلقون التعاليم الإسلامية منذ نعومة أظافرهم فإن مفهومي الجنة والنار هما مكانين ماديين، حيث إن الكثير من الآيات والأحاديث تشير صراحة إلى ذلك. وبالتالي لا بد أن هناك في هذا الكون مكان اسمه “الجنة” وآخر اسمه “النار”. مخيلة الإنسان لا تسعفه كي يعرف موضع أو حدود أو طبيعة أي من هذين المكانين. ولكنه يتعامل مع الأمر كما وصف أو قدم له.
طبعا لا أقول إن في الأمر خدعة، ولكن التفكير البسيط في عصرنا هذا سوف يقود أي إنسان إلى التساؤل عما هو أبعد من المفاهيم التقليدية بالنسبة للجنة والنار. من هذه الأسئلة: إذا كنا نتحدث عن مكانين ماديين فلا بد أننا نتحدث عن حيز ما يوجدان فيه، وبالتالي ما هو هذا الحيز؟ ثم كيف ينتقل الناس بعد الممات إلى الجنة أو النار، هل ينتقلون بأجسامهم أم بأرواحهم؟ إذا كانوا ينتقلون بأجسامهم فهذا يطرح بدوره أسئلة أخرى بسبب كون الأجسام والأرواح ينتمي كلا منهما إلى عالم مختلف، وإذا كانوا ينتقلون بأرواحهم، فإن أرواحهم ليست مادية وبالتالي فإنها لا تتأثر بالظواهر المادية مثل الحرارة أو البرودة ولا يضيرها البقاء في النار خالدة!
الاختراق الكبير
هذه أسئلة الهدف منها ليس التشكيك في الاعتقادات الدينية بخصوص الجنة والنار، ولكن فتح مساحة من الحرية للتفكير والتساؤل بصوت عال بشأن هذين المفهومين وغيرها من المفاهيم. ولعل أهم ما يمكن أن يستنتجه الإنسان عندما يقرأ النصوص الدينية، أن الالتزام بها “حرفيا” لا بد أن يوصله، آجلا أم عاجلا، إلى طريق مسدود، بل إلى تصادم مع التفكير السليم ومع قيم العصر التي نعيشها.
شخصيا أنا ممن يميلون إلى الدين الفردي القائم على الإيمان بالله من خارج دائرة الأديان
الاختراق الكبير الذي زحزح الصخور من فناء الأديان الإبراهيمية، كان هو المدارس الروحانية، سواء التصوف في الإسلام أو الاتجاهات الروحانية في اليهودية والمسيحية.
وتعرف هذه المدارس بتفسيراتها “الباطنية” ليس فقط للنصوص الدينية وإنما أيضا لمجمل الخطاب الديني. والباطنية هنا هي عكس الظاهرية أو الحرفية.
فوفق هذا التفسير فإن مفهومي “الجنة” و”النار” لا يشيران إلى مكانين جغرافيين، وإنما إلى حالتين من الوعي. بمعنى أن الإنسان لا يختبر مفهوم الجنة والنار على مستوى الجسد وإنما على مستوى الروح. فالإنسان “المسيء” عندما يموت لا يذهب إلى جهنم، لأنه ليس هناك مكان اسمه جهنم، وليس هناك معنى لفكرة الذهاب نفسها، ولكنه يستعيد ماضيه مثل الشريط فيشعر بالألم الذي أوقعه في الآخرين، ولكنه ليس ألما ماديا، وإنما وعيه بهذا الألم سيكون كافيا كي يعيشه مرة ثانية كما لو أنه قد وقع عليه. طبعا لكي يحصل ذلك، لا بد أن تزول الثنائية بين الإنسان والآخر ضمن هذا المستوى، إذ ليس ثمة آخر منفصل في حقيقة الأمر. وهذا مبحث آخر. والأمر نفسه بالنسبة للجنة. فليس هناك مكان مادي بهذا الاسم. هي الأخرى مستوى من الوعي.
مساحة للتفكير
هناك من سوف يقول وما يدرينا بأن ما يقال هنا هو الصحيح، وما نفهمه من الكتب الإبراهيمية ليس كذلك؟ وأقول إنه بالفعل ليس هناك ما يثبت أن ما يقال هو الصحيح، ولا أدعي أن الأفكار الواردة في هذا المقال هي الصحيحة، وسواها خطأ، إن الأمر متروك لكل إنسان كي يفكر كما يشاء.
الاختراق الكبير الذي زحزح الصخور من فناء الأديان الإبراهيمية، كان هو المدارس الروحانية، سواء التصوف في الإسلام أو الاتجاهات الروحانية في اليهودية والمسيحية
ولكن الأمر في اعتقادي لا يتعلق بالصح أو الخطأ بمقدار ما أن المهم هو أن نفتح ثغرة للتفكير على نحو مختلف، وبصورة تجعل كل إنسان، سواء كان متدينا أو غير ذلك، يرى بأن ثمة أمرين مختلفين. الأول هو “الله”، والأمر الثاني هو “الدين”.
والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه: هل يمكن للإنسان أن يعبد الله، أو تكون له علاقة ما مع الله، من غير طريق الأديان؟ والسؤال الآخر هو هل هناك، من خارج دائرة النصوص الدينية، ما يثبت بأن الأديان هي فعلا من الله؟ لا أدعي أنني أملك الإجابة على هذين السؤالين، لكني أعتقد أنهما جديران بكل إنسان أن يتأمل فيهما.
الدين الفردي
شخصيا أنا ممن يميلون إلى الدين الفردي القائم على الإيمان بالله من خارج دائرة الأديان، فنحن حين نجرد الله من الأديان، فإنما نتحدث عن إله مختلف تماما، إله يمكن للإنسان أن يعتبره أبا أو أما أو أخا أو أختا أو صديقا أو حبيبا كما يفعل أتباع المدارس الروحانية. الله بهذا المعنى ليس قاضيا أو مراقبا أو حسيبا لأفعال الإنسان. فقد تعالى الله عن أين وكيف ومتى وفوق وتحت…إلخ.
بهذا المعنى فإن ما يبقى من الله هو الرحمة والجمال والتناغم والحب غير المشروط…إلخ.
ويثير استغرابي دائما أن الإنسان يتعثر في قبول الصفات الأخيرة، ويصر على صفات الانتقام والبطش والعقاب والعذاب، كما لو أنه في نفسه وبنفسه يصر على ضرورة إيجاد جهنم، حتى وهي متعذرة الوجود. لعلها مشكلة كبيرة فعلا أن الإنسان لا يدري أنه هو وحده من في يده الاختيار. يقول الشبلي: “أنا أقول وأنا أسمع، فهل في الدارين غيري؟”.