عمران سلمان – الحرة – 24 يوليو 2020/
يلفت نظري كثيرا حين أشاهد مقابلات مع بعض المشاهير في أميركا، مثل أوبرا أو بيل غيتس أو غيرهم، أو أيضا بعض المشاهير في العالم العربي، مثل كاظم الساهر وغيره، كيف أنهم وسط الشهرة والمال والأضواء المحيطة بهم من كل جانب، مع ذلك لديهم القدرة على أن يقيموا فاصلا بين كل ذلك وبين أنفسهم فيملكوا الإمكانية للتمييز بين ما هو خارجهم وبين ما هو داخلهم، أو بالأحرى ما يخصهم كأفراد وذوات وبين ما يخص العالم بوصفهم مشاهير. كما لو أنهم يبتعدون، في لحظة ما، عن الضجيج القادم إليهم من الخارج، حتى يخفت ويتوارى، ما يتيح لهم الانصات إلى دواخلهم.
وسط الزحام
في العادة فإن كثيرا منا يضيع في وسط زحام الحياة والشهرة والثروة والمجد، حتى أننا نتماهى تماما مع الأجواء المحيطة بنا، فلا نكاد نفرق بين تلك الصورة التي يصنعها الجمهور أو العالم الخارجي عنا، وبين من نكون نحن أنفسنا. إننا نتصرف وفق تلك الصورة التي نعتبر أنها حقيقة تمثلنا والتي يتم تغذيتها باستمرار من قبل المحيطين، القريبين أو البعيدين عنا.
طبعا هذه الصورة لا تدوم، فهي تتغير بتغير أذواق الناس واهتماماتهم وتصوراتهم وأيضا بحكم الزمن وتعاقب الأحوال. لذلك مع الوقت ترتفع أسهم بعض المشاهير أو تنخفض. ومعها تتبدل تلك الصورة، وما يرافق ذلك من إصابة صاحب الشهرة بالاكتئاب أو القلق أو الغضب. والسبب في ذلك أن الناس هم من صنعوا هذه الصورة للإنسان وهم من يغيرونها، وهذا أمر يحدث في كل وقت ومكان، لكن المشكلة ليست في الناس وإنما في الإنسان حين يصدق هذه الصورة أو يعتبر أنها هي صورته الحقيقية ويتصرف في ضوء ذلك.
خمس صور
لكل إنسان خمس صور تقريبا، واحدة هي تلك التي يكوّنها العالم عنه ويعكسها على الإنسان نفسه، وثانية هي تلك التي يعتقد الإنسان أن العالم يراه بها، وثالثة هي تلك التي يكوّنها هو عن نفسه، ورابعة هي الصورة التي يتمناها لنفسه وخامسة هي التي يكون عليها.
الصورة الأولى ليست حقيقية لأنها الصورة التي يريد العالم أن يراها في ذلك الشخص. والصورة الثانية أيضا ليست حقيقية لأنها ما يرغب الإنسان أن يراه الناس من خلالها، والصورتان الثالثة والرابعة كذلك ليستا حقيقيتين لأنهما اللتان يريد ذلك الشخص أن يراهما في نفسه. بينما الصورة الخامسة هي الحقيقية لأنها هي الصورة التي يكون عليها فعلا.
السؤال هو طبعا كيف يستطيع الإنسان أن يصل إلى صورته الحقيقية أو يميز ما بين هذه الصور الخمس؟
معظمنا يضيع بين هذه الصور، فإن تخطينا الأولى فإننا قد لا نتخطى الثانية أو الثالثة أو الرابعة، والسبب هو أن رغبة الإنسان أو “الأنا” أو “النفس” لديه تكون قوية إلى درجة أنها تقف حاجزا بينه وبين أي سعي لمعرفة الصورة الحقيقية. فالطبيعة في الإنسان تجعله يألف ويأنس ما تعود عليه أو ما وافق هوى في نفسه، وما استثمر فيه من وقت وجهد، بينما التغيير يتطلب عكس ذلك تماما.
الصوت الداخلي
لعل أول خطوة يمكن للإنسان أن يخطوها كي يفهم ويدرك حقيقة تلك الصور، هي إسكات ذلك الهدير القادم إليه من الخارج وإفساح المجال لصوته الداخلي. ما هو الصوت الداخلي؟ إنه إحساس الإنسان وشعوره الخاص، إنه ما يحدثه به قلبه حين يخلو بنفسه. الواقع أن لدى كل إنسان مثل هذا الصوت مهما كان ضعيفا. فالإنسان يمكنه أن يغالط العالم كله، وقد يغالط نفسه أحيانا، وربما يستطيع أن يتجاهل أو ينكر ما يسمع، لكنه لا يستطيع أن يلغيه تماما من الوجود.
لكن إنصات الإنسان إلى صوته الداخلي وحده لا يكفي، لأن المؤثرات المحيطة به كبيرة وقوية لدرجة أنها قد تضلله، لذلك من المفيد، وهذه هي الخطوة الثانية، أن يجتهد الإنسان في خلق حيز ومساحة من الوعي داخله كي يستطيع أن يسمح فيها لذلك الصوت بأن ينمو وتتوضح معالمه ومقاصده. هذه المساحة هي الخاصة بالتعبير عن المشاعر والأحاسيس.
الرحلة في الوعي
السيطرة على التأثير الخارجي وتنمية المشاعر الداخلية، تسمح للإنسان، وهذه هي الخطوة الثالثة، بأن يعيد اكتشاف نفسه، ليس وفق معايير الآخرين، وإنما وفق معياره هو. ولكن هذه المرة سوف يكون المعيار مجردا من تأثيرات “الأنا” أو “النفس”، سيكون شيئا نابعا من منطقة أبعد في الإنسان. وحين أقول معيار الإنسان نفسه، فالقصد هو نظرته إلى نفسه انطلاقا من وعيه بنفسه.
هذه العملية طويلة بطبيعتها وتأخذ الإنسان إلى عوالم ومناطق في وعيه، لم يكن منتبها لها أو عارفا بوجودها أصلا. فحتى الآن فإن الواحد منا يعرّف نفسه انطلاقا من واحدة أو أكثر من الهويات المختلفة، التي ارتبطت بنا أو ارتبطنا بها عبر المجتمع، مثل الاسم والانتماء العائلي أو القبلي أو الديني أو القومي أو الوطني أو الوظيفي أو الجنسي.. الخ، لكن بمجرد أن نزيح هذه الهويات جانبا، ولو على مستوى الوعي، فماذا يتبقى؟ يتبقى الإنسان في صورته الأصلية، وهي صورته الحقيقية.
وحتى إذا عاد الإنسان من جديد إلى تلك الهويات المجتمعية، فإنه هذه المرة سوف يعود مختلفا، ومسلحا بالوعي بعد الرحلة التي قطعها داخل نفسه، وسوف يكون قادرا على التمييز بين ما يخصه فعلا وما يخص الآخرين.