عمران سلمان – الحرة – 07 أغسطس 2020/
في كتابه “منطق الطير” يتحدث الصوفي الإيراني الكبير فريد الدين العطار (عاش بين عامي 545 ـ 627 هـ) عن الرحلة الطويلة التي قطعتها الطيور في بحثها عن ملكها السيمورغ وهو طائر أسطوري، يقيم في جبل قاف، وهو أيضا جبل أسطوري.
مرآة السيمورغ
تجتمع الطيور وتقرر البحث عن ملكها، لكن عليها أن تقطع سبعة أودية، كي تصل إلى الجبل. جميع الطيور في البداية تتحمس للرحلة، يتقدمها الهدهد، لكن بعد فترة بعضها يشعر بالتعب والإجهاد فيقرر عدم مواصلة الطريق، وبعضها الآخر يتعلل بعدم جدوى البحث، فيما يموت معظمها خلال الرحلة، إلا أن مجموعة من الطيور (عددها ثلاثون)، تنجح في بلوغ الجبل، وعندما تصل وقد أخذ منها الإعياء مأخذه، تستريح عند مدخل المكان الذي يفترض أنه مقر السيمورغ.
إن نفس الإنسان أو جسده هما أقرب شيء إليه، وبالتالي يفترض أنهما أكثر قابلية للمعرفة من باقي الأشياء التي توجد خارج الإنسان
تطرق الباب فينهرها حاجب السيمورغ في البداية ويطلب منها العودة من حيث أتت، لكن مع إصرارها يوافق على فتح الباب، ولدهشتها ما أن تدخل إلى المكان حتى لا تجد شيئا. فقط مرآة وفيها تجد صورتها. تنهار في البداية من هول المفاجأة، لكن بعد برهة تدرك بأن ما كانت تبحث عنه إنما هو موجود في داخلها وليس خارجها.
الأودية السبعة هي المقامات السبعة عند الصوفية وهي وادي الطلب، ووادي العشق، ووادي المعرفة ووادي الاستغناء، ووادي التوحيد، ووادي الحيرة، ثم الفقر والفناء. والمتصوف يمر عبر هذه الأودية في طريقه نحو الترقي الروحي.
استحالة المعرفة
أما المغزى الأساسي من القصة فهو أن الإنسان يبحث عن الله معتقدا أنه موجود في مكان ما، أو على هيئة ما، البحث عن الله هو بحث الإنسان في نفسه عن نفسه.
كيف يبحث الإنسان عن الله في نفسه؟
إذا كان الإنسان يعتقد بأن الله موجود في مكان ما خارجه، فإنه لن يجده. فكرة الفصل تجهض أية إمكانية للبحث. والسبب؟ إن الإنسان بحكم قوانين الفيزياء الكمية لا يستطيع أن يدرك حقيقة أي شيء خارجه. كل ما تنظره عيوننا أو تسمعه آذاننا، إنما يتم بأثر رجعي لأن الأشياء تتغير في اللحظة التي نشرع في ملاحظتها، بمعنى أن الأجزاء من الثانية التي تستغرقها حواسنا، بما في ذلك العين، كي ترى الشيء وترسله إلى العقل كي يحلله ويرسله مرة أخرى للعين كي تنظره، يكون الشيء نفسه قد تغير. فنحن دائما مهزومون عندما يتعلق الأمر بمعرفة الأشياء خارجنا.
ولأن الأمر هو على هذا النحو فإن نفس الإنسان أو جسده هما أقرب شيء إليه، وبالتالي يفترض أنهما أكثر قابلية للمعرفة من باقي الأشياء التي توجد خارج الإنسان.
تعريف الإنسان
وبالعودة إلى السؤال أعلاه، فإن إدراك الله في الإنسان، لا يعني أن الله موجود داخل الإنسان (وجودا ماديا)، ولكنه يعني أنه يمكنه أن يستخدم نفسه كجسر أو صلة أو وسيلة نحو إدراك الله.
وهذا ينقلنا إلى السؤال التالي وهو: هل يعرف الإنسان نفسه؟
حتى الآن كان الجسد مجرد بوابة يعيش الإنسان عبرها تجاربه مع العالم الخارجي
إن معظمنا سيقدم إجابة من قبيل الاسم أو الوظيفة أو الانتماء العائلي أو القبلي أو الوطني أو الديني وما إلى ذلك. إن هذه الأمور كلها ربما تشير إلى شخص ما، لكنها لا تعرّف الإنسان أو تقول من هو على وجه الحقيقة. فهي لاحقة على وجود الإنسان وليست سابقة له، وبالتالي فهي إضافة منحها المجتمع للإنسان، ويمكنه أن يعيش من دونها، لذلك يبقى السؤال قائما. من هو الإنسان؟
شخصيا وجدت دائما أن هذا هو أكثر الأسئلة صعوبة التي يمكن أن توجه للواحد منا. ليس فقط لأن الإنسان بالكاد يعرف نفسه حقيقة، وإنما لأن هذا النوع من الأسئلة عادة لا تطرح ولا يفكر فيها الإنسان.
البحث في الله
لكن لو شئنا أن نتقدم في الموضوع أكثر، وافترضنا أن الإنسان قد نزع تلك الصفات عنه (الاسم، واللقب، والوظيفة… إلخ) فما الذي يتبقى؟ وكيف سيعرف نفسه؟ لعل أول ما يلاحظه هو أنه ليس منفصلا عن الوجود، بل هو جزء لا يتجزأ منه. والأمر الآخر أن انتفاء الحاجة إلى التعريف أو الارتباط الشرطي بالأشياء الخارجية تدفع الإنسان تلقائيا إلى الارتداد نحو الداخل، أي داخل الإنسان.
وهذا الارتداد يجعل الإنسان يُصلح علاقته بجسده ويشعر بوجوده كما لم يفعل من قبل. فحتى الآن كان الجسد مجرد بوابة يعيش الإنسان عبرها تجاربه مع العالم الخارجي، أما الجانب الآخر للجسد فهو أنه أيضا بوابة للعالم الداخلي والذي بمجرد الولوج إليه يصبح الإنسان وجها لوجه مع الوعي والعقل والنفس والقلب والروح.
هذه “الكيانات” ليست مادية ولكنها أشبه بشحنات الطاقة التي تتدفق باستمرار عبر جسد الإنسان. وهي نفس الطاقة التي تملأ الكون كله. إن إحساس الإنسان بهذه الطاقة وفهمها وقدرته على تحقيق الانسجام والتناغم بينها وبين العالم الخارجي، هو ما أسميه بحث الإنسان عن الله في نفسه. وهذه الرحلة تنقسم إلى قسمين، الأول هو البحث عن الله، أما القسم الثاني فهو البحث في الله، وهي رحلة لا نهاية لها.