بقلم/ عمران سلمان – 1 أبريل 2023/
على الرغم من أن مسألة “القيم” تظل أثيرة لدى الكثيرين وخاصة أولئك الذين ينتمون إلى الثقافات القديمة وتحديدا الدينية منها، وبالتالي فهم لا يتصورون أن القيم يمكن أن تتغير مع الوقت، وأن الناس يمكن أن تتخلى عنها كلها أو بعضها في غضون سنوات قليلة أو كثيرة. ولاسيما عندما يجدون أنها لم تعد تمثل نفس الأهمية التي كانت لها في السابق أو لم تعد تخدم نفس الأغراض التي بسببها تبناها الناس.
أقول رغم إن الكثيرين لا يتصورون أن القيم قابلة للتغير، مع ذلك فالواقع أن القيم يجري عليها ما يجري على الأمور الأخرى في الحياة من تغيير وتبديل. ويمكن ملاحظة ذلك خاصة مع تعاقب الأجيال. وهذا قد يحدث في حياة شخص واحد أو في حيوات متعددة.
في أحدث استطلاع للرأي أجرته جريدة وول ستريت جورنال بالتعاون مع جامعة شيكاغو ونشرت نتائجه على صفحاتها، تفاجأ القائمون على الاستطلاع حين وجدوا تراجع نسبة التأييد لعدد من القيم التي ارتبطت بأجيال من الأميركيين وساهمت في تشكيل الهوية والشخصية الأميركية، مثل الوطنية والإيمان الديني والتفاني في العمل وإنجاب الأطفال.. الخ.
فقد أجاب حوالي 38 في المئة من المستطلع رأيهم بأن حب الوطن مهم جدًا بالنسبة لهم، وقال 39 في المئة أن الدين مهم جدًا. وكان هذا انخفاضًا حادًا عما كان عليه الحال عندما طرحت الجريدة السؤال لأول مرة في عام 1998، عندما اعتبر 70 في المئة أن الوطنية مهمة جدًا، وقال 62 في المئة من المستطلع رأيهم عن الدين.
كما تراجعت نسبة الأميركيين الذين يقولون إن إنجاب الأطفال والمشاركة في مجتمعهم والعمل الجاد هي قيم مهمة للغاية. وقد انخفض التسامح مع الآخرين، الذي يعتبره 80 في المئة من الأميركيين مهمًا جدًا منذ أربع سنوات، إلى 58 في المئة منذ ذلك الحين.
المسألة الوحيدة التي ازدادت أهميتها في ربع القرن الماضي هي المال، والذي تم الاستشهاد به باعتباره مهمًا جدًا بنسبة 43 في المئة في الاستطلاع الجديد، ارتفاعًا من 31 في المئة في عام 1998.
يقول بيل ماكنتورف، أحد المتخصصين في استطلاعات الرأي والذي عمل في استطلاع سابق لوول ستريت جورنال بالتعاون مع إن بي سي نيوز، إن “هذه الاختلافات دراماتيكية للغاية، فهي ترسم صورة جديدة ومدهشة لأمريكا المتغيرة.” ويضيف “يبدو أن حصيلة الانقسام السياسي في البلاد ووباء كوفيد ونسبة الثقة الأدنى منذ عقود في الاقتصاد، تركت بصماتها بصورة مذهلة على قيمنا الأساسية”.
وتقول الصحيفة إن عدة أحداث هزت الأمة الأميركية وفي بعض النواحي مزقتها، منذ أن طرحت لأول مرة أسئلتها على الجمهور بشأن هذه القيم، من بينها هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية، والأزمة المالية عام 2008 والانكماش الاقتصادي الذي تلاها وصعود الرئيس السابق دونالد ترامب.
ولاحظت الجريدة أنه بصرف النظر عن المال، أولت جميع الفئات العمرية، بما في ذلك كبار السن، أهمية أقل بكثير لهذه الأولويات والقيم مما كانت عليه عندما سأل منظمو استطلاعات الرأي عنها في عامي 1998 و2019. لكن الأميركيين الأصغر سنا على وجه الخصوص يولون أهمية منخفضة لهذه القيم، التي كان الكثير منها محوريا في حياة آبائهم.
وكما نرى فإنه أيا كان السبب أو الأسباب التي تدفع الأميركيين وخاصة الشباب منهم لإعادة النظر في القيم التي نشأوا عليها، فالواضح أن هذه القيم تغيرت مع الوقت وأن أهميتها زادت أو نقصت بقدر الفائدة التي يجنيها الإنسان من التمسك بها. والأهم أنه لا توجد مشكلة في التصريح بالموقف الجديد الذي يتوصل له هذا الإنسان. وأن الصدق مع النفس يظل معيارا أساسيا هنا.
عندما نقارن هذا السلوك وهذه الطريقة في التعامل مع القيم مع ما يحدث في مجتمعاتنا العربية، فإنه لا يمكن أن نخطأ ملاحظتين.
الأولى، أن معظم القيم في مجتمعاتنا تخضع للقداسة ويتم تمجيدها والتغني بها طوال الوقت واعتبار من يصرحون بالتخلي عنها خارجين عن الإجماع العام. وبالتالي فإنها حتى وإن اكتسبت هذه القيم أهمية في فترة ما، فمن الواضح أن عدم القدرة على التخلي عنها عندما تصبح قديمة وبالية يجعلها تتحول إلى عبء على المجتمع وأفراده.
والملاحظة الثانية، هي أنه حتى أولئك الذين يجدون في القيم السائدة في مجتمعاتنا عائقا أمام التقدم وأنه قد أكل الدهر عليها وشرب، فإنهم لا يستطيعون المجاهرة بذلك، إما خوفا من الانتقاد والتخوين أو بسبب الازدواجية التي يتربى عليها الإنسان في مجتمعاتنا، حيث لا يمانع في أن يقتنع بشيء ويظهر شيئا آخر، أو يقول شيئا ويفعل شيئا مختلفا.
والحال أن القيم هي من صنع الإنسان مثلها مثل الأفكار والتوجهات وغيرها، والإنسان يتغير مع الوقت، فما الذي يجعل أفكاره وقيمه لا تتغير هي الأخرى؟ إن حدث ذلك فلا ريب أن ثمة خلل ما.