هيمنة الدين تُذهِب الحضارة!

بقلم/ عمران سلمان – قناة الحرة – 27 مايو 2022/

قلة قليلة من الذين تصدوا لسؤال “لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم” توقفوا عند الصلة الوثيقة ما بين هيمنة الدين في مجتمع ما وبين غياب مظاهر الحضارة في هذا المجتمع.  

الواقع أن لدينا هنا علاقة عكسية بامتياز، إذ كلما زاد حضور الدين في المجال العام وسيطرته على مختلف مناحي الحياة، تراجعت الحريات والثقافة والاهتمام بالعلوم والتمدن والحضارة.

وهذا الأمر له في الماضي وكذلك الحاضر شواهد، والكثير مما يمكن أن يشار به وإليه. وحال المجتمعات العربية اليوم هو أحد هذه الشواهد. بل أنه حتى في التاريخ العربي الإسلامي، كانت مظاهر الحضارة والعلوم تنتعش بمقدار ضعف سيطرة الدين على هذه المجتمعات، وتقل تلك المظاهر حتى تنعدم مع تزايد سطوة الدين ورجال الدين.

ولا غرابة في أن العصور التي أصبحت فيها للمذاهب الدينية السيطرة الفولاذية على المجتمعات هي ذات العصور التي يؤرخ لها بوصفها بداية عصور الظلام الإسلامية.     

بالطبع، الدين هو جزء من الحياة، ومن غير المتوقع أن يختفي الدين أو أشكال التدين المختلفة في أي وقت قريب، لكن المشكلة هي حين يصبح الدين ناظما وحاكما للحياة في هذه المجتمعات وليس مجرد طريق سريع فيها.

لماذا؟

لأن الدين بوصفه منظومة من الاعتقادات الإيمانية، ميدانه المُطلقات، فالله مطلق والغيب مطلق والرسالة مطلقة والإيمان مطلق.. إلخ. وهذه المطلقات تتناقض بالضرورة مع إدارة الحياة البشرية التي تنحو بكل ما فيها نحو النسبية. 

والنسبية هنا ليست وجهة نظر، ولكنها المبدأ الأساسي في العلوم والثقافة والفكر والسياسة وفي جميع مجالات الحياة.

الواقع أن ما يجعل الحياة ممكنة بالنسبة للملايين، بل والمليارات من البشر هي أنها نسبية. أي أن ما يصلح لشخص ما قد لا يصلح لشخص آخر.

لكن المشكلة مع الدين تبدأ حين يسيطر على المجال العام، فهو مطلق وأتباع الدين يفكرون بنفس الطريقة، فهم يتخيلون أنفسهم يقفون على جبل من المطلقات ويطلبون من جميع البشر أن يصعدوا إليهم، فإن لم يفعلوا فليتبوؤا مقاعدهم من النار ولهم عذاب عظيم.

وهذا العذاب لا يقتصر على الآخرة، التي لا أحد يعرف على وجه الدقة متى دخلت إلى المعجم البشري كمصطلح لأول مرة، ولكنه يطال الحاضر حيث يتم بالفعل حرق المخالفين أو الذين يوصمون بالهرطقة، كما حدث للطالبة النيجيرية، ديبورا صموئيل، (12 مايو 2022) التي قتلت بطريقة بشعة ثم أحرقت جثتها لأنها قالت كلاما فُهم منه أن به إساءة لنبي الإسلام. أو ما يحدث للمسيحيين في باكستان مثلا مما تشيب له الرؤوس.

هناك من يحاول أن يلطف الأمور بالقول إن أتباع الدين، وفي حالتنا المسلمين، قد تغيروا بفعل الظروف وأصبحوا أكثر تقبلا للآخر. ولكن في هذا الكلام مبالغات كثيرة.

الواقع هو أنك ما دمت تؤمن بدين مطلق وشامل وواجب السيادة، من المستبعد أن تكون متسامحا والأبعد أن تكون على توافق أو تصالح مع الحضارة الحديثة. 

كذلك من الأوهام الشائعة أن الحديث في التراث الإسلامي ونقده أو على الأقل نقد الجوانب اللاعقلانية فيه وهي كثيرة، هو بمثابة عمل زائد لا تقتضيه ظروف المرحلة التي نعيشها، أو أن فيه تهديد للسلم الأهلي، كما قد يبدو للبعض.

الحقيقة هي أن المجتمعات المسلمة لن يتسنى لها أن تخرج من تحت الركام إلى مستوى سطح الحضارة الحديثة ناهيك عن الوقوف على أرضها من دون التعامل النقدي مع ذلك التراث.

فالانشغال بالسياسة والمعارضات والتحركات والاضطرابات لن ينقلنا إلى أي مكان، ما دام ذلك التراث يحكم سيطرته على العقول والقلوب.

فهؤلاء الذي يتراكضون في الشوارع، هم ذاتهم الذين يتكومون على أنفسهم وينصتون إلى بعض خطباء الجمعة وهم يتفوهون ببعض (أو كثير) مما تمجّه العقول الطبيعية وتأنف منه الفطرة السليمة من أحاديث تنضح بالكراهية والدعوات السيئة ضد المخالفين في العقيدة أو المختلفين في الرأي. 

ترى ما الذي يجعل هؤلاء لا ينصرفون من المسجد أو يحتجون على ذلك أو يشعِرون الخطيب بأن ما يقوله لا ينسجم مع الإسلام الصحيح أو مع القيم الحديثة؟ لماذا يرددون خلفه كل ما يقوله؟ وهؤلاء أنفسهم هم أيضا الذين تقودهم الدعاية الصفراء للإسلام السياسي فيهيجون ويميجون لدى أدنى إشارة بوجود إساءة لهذا الرمز الديني أو ذاك. 

في الأحوال العادية ولو جلسنا مع كل فرد من هؤلاء لربما أظهر شيئا من العقلانية ولربما أظهر رغبة في الحديث والنقاش والتفهم، لكنه وتحت تأثير الشعارات والخطب والدعوات المنبثة من التلفزيونات والمنابر التحريضية، يشعر بوجود إلحاح بأن عليه أن يتحرك لفعل شيء ما، وهذا الشيء في الغالب يكون فعلا عنيفا، إما لسحق شخص مخالف أو تقريعه أو التضييق عليه، وأضعف الإيمان هو كتابة الشتائم والبذاءات في وسائل التواصل الاجتماعي!

ترى ما الذي يحوّل هؤلاء الناس من أشخاص طبيعيين وعاديين إلى ماكينات تنتج الكراهية والعنف والتحرش بكافة أشكاله؟ إنه التراث الديني.

والأمر الواضح أنه حيثما يسود رجل الدين والتراث الديني تدخل المجتمعات في مرحلة الانحطاط والتدهور وتميل أخلاق الناس نحو الغلظة والعنف والاعتداء الجنسي أو ما يعرف بالتحرش.

هل نحتاج إلى أدلة على ذلك؟ لا أعتقد.

وللحديث بقية.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *