بقلم/ عمران سلمان – قناة الحرة – 28 يناير 2022/
الناس في المجتمعات العربية يستخدمون منتجات الحداثة بكثافة، ومع ذلك فإن قيم الحداثة نفسها ضعيفة إلى غير موجودة في هذه المجتمعات.
واستخدام هذه المنتجات في العالم كله لم يأت في البداية بسبب القناعة في أهميتها وفائدتها، ولكن لأن العولمة والنشاط القاري للشركات الصناعية وشركات التكنولوجيا العملاقة قد فرضا قيما وطرقا جديدة للمعيشة والتواصل مرتبطة بهذه المنتجات. وبالنتيجة أصبحت هناك معايير جديدة للحياة في هذا العالم، تطال كل شيء تقريبا من الاتصال وتلقي المعلومات إلى الشراء والمواصلات.. إلخ، الأمر الذي قاد الناس إلى هذا الطريق، ويمكن التمييز هنا ما بين عصرين، ما قبل الإنترنت وما بعده وهكذا.
ومع ذلك فإن قيم الحداثة التي نتكلم عنها هنا ليست مقتصرة على القيم الغربية، كما قد يتبادر إلى الأذهان، وهي ليست أيديولوجية أو معتقدات يحاول بعض الناس الترويج لها أو فرضها على الآخرين. ولكنها قيم عصرنا هذا الذي نعيشه. ولن يجدي نفعا محاولات شيطنتها ولصقها بالغرب أو غيره للهروب منها.
أهم هذه القيم هي مركزية الإنسان في الحياة. ففي العصور السابقة لم يكن الإنسان هو المركز، كانت الأديان والمعتقدات الدينية هي الأساس والإنسان مجرد حلقة وصل ما بين “الأرض والسماء”. هذه العلاقة انقطعت تقريبا في أجزاء من العالم وتغير محتواها في أجزاء أخرى، فيما لا تزال على حالها في بعض المناطق.
لكن الملاحظة الأبرز هي أن أجندة الإنسان تقدمت إلى الأمام. فقد ترسخت الحريات الفردية وباتت الحقوق الأساسية للإنسان معترفا بها (أو تؤخذ بعين الاعتبار) على نطاق واسع، بما في ذلك الاعتراف بحقوق المرأة، وتجريم العنصرية ورهاب المثلية.. إلخ.
بمعنى آخر لم يعد مقبولا أو مفيدا في أي مجتمع تجاهل الحقوق الأساسية للإنسان والتصرف كما كانت تفعل الدول والإمبراطوريات القديمة مع مواطنيها، ولم يعد هذا النمط قائما اليوم سوى في مناطق محدودة جدا من العالم مثل كوريا الشمالية، وأفغانستان، وكوبا، وإيران. ولا أستبعد أن نشهد مع الوقت تغيرا في هذه المناطق أيضا.
من القيم العصرية كذلك نسبية المعرفة ونسبية الحقيقة. إن عصرنا هذا من الصعب أن تشتغل فيه الحقائق المطلقة. وقد رأينا كيف انهارت الشيوعية ولم تتمكن من الصمود بسبب ارتكازها على الحقيقة بالمطلق المتعارضة مع الطبيعة البشرية. ورأينا أيضا كيف انهارت وتنهار النظم الدينية والشمولية أو تعاني من الفشل أو العجز المزمنين لنفس السبب أيضا.
الإيمان بالحقيقة المطلقة ينتمي إلى الماضي، بينما العصر الحديث بعلومه ونظرياته في الميادين المختلفة يقوم على النسبية، أي أن صحة الشيء أو فائدته أو نفعه متوقفة على ظروف وعوامل معينة وعلى زمن معين، وأنه بمجرد تغير هذه الظروف تتغير أيضا تلك القيمة. بهذا المعنى فإن الاتجاه الحديث في التفكير والبحث يميل إلى أن يكون مفتوحا أو منفتحا، ولا يفترض نهاية معينة سلفا.
كذلك يبتعد هذا الاتجاه قدر الإمكان عن الأّحكام المسبقة أو المعرفة القبلية أو السالفة، ويسعى إلى اعتماد النظرة الجديدة والراهنة للتعامل مع المشكلات والقضايا المطروحة.
من القيم التي تميز عصرنا أيضا التحول من الانتماء إلى الأشياء أو المسميات إلى الأفعال أو النشاطات. فبدلا من الانتماءات الدينية أو القومية أو العرقية.. إلخ، أصبحت انتماءات الإنسان تدور حول نشاطه وما يقوم به، مثل الاجتهاد في العمل والاعتماد على الذات وتحمل المسؤولية وخدمة الصالح العام والموقف من نفسه ومن غيره ومن المجتمع والدولة.. إلخ.
وبصورة عامة فإن ما يميز عصرنا والعصور التي ستأتي أنها تبدو أخف في حمولتها. فالأيديولوجيات والعقائد الدينية الجامدة تبدو ثقيلة على الإنسان المعاصر. الاتجاه العام هو التخفف والتحلل من هذه وتلك. ونحن نرى ذلك بوضوح في هرب الناس من ضفة التكلف والجمود والماضوية سواء على مستوى الفكر أو اللغة أو الأدب أو حتى الاقتصاد والسياسة، إلى ضفة السهولة والمرونة والبساطة.
ومنتجات الحداثة تساعدنا على ولوج هذا الطريق، لأنها منتجات العصر نفسه وهي المعبر المباشر عنه.
المشكلة هي حين نقيم التعارض والتناقض بين الاثنين، كما يحدث في بعض المجتمعات العربية والإسلامية، ونصر على وضع رجل في الماضي ورجل في الحاضر. على هذا النحو لن نستطيع أن نمشي أو نتحرك خطوة إلى الأمام. وهذا هو التوصيف الأدق لحالنا في الوقت الراهن.. الحال الذي أصبح له قرنا من الزمان على أقل تقدير.