بقلم /عمران سلمان – 25 يناير 2022/
تخيلوا معي لو أن مذيعا في قناة “سي إن إن” أو حتى “فوكس نيوز” قال لمراسلة المحطة في إحدى المدن الأميركية أو العواصم الأجنبية على الهواء مباشرة “هنيئا لك ارتداؤك الصليب وذهابك إلى الكنيسة لقد زادك ذلك بهاء وإشراقا”! بالطبع سيكون هذا أمرا مستنكرا وغير مألوف وربما قاد إلى طرد المذيع وتقديم اعتذار خاص من المحطة. ليس لأن هذه المحطة تعادي المسيحية أو المسيحيين، ولكن لأنها لا تسمح بتحول مذيعيها إلى دعاة دينيين!
لكن هذا بالضبط ما فعله مذيع قناة الجزيرة عبد الصمد ناصر (19 يناير 2022) حين خاطب زميلته مراسلة القناة في لندن المغربية مينة حربلو، التي ارتدت الحجاب بالقول” هنيئاً لك ارتداء الحجاب، زادك بهاءً وإشراقة في الشاشة”.
ولست أشك في أن الكثيرين خلف شاشة الجزيرة يشاطرون عبد الصمد رأيه وشعوره هذا – حربلو غردت عبر صفحتها في موقع تويتر قائلة: أول يوم على الشاشة بالحجاب والتفاتة طيبة من زملاء أكن لهم كل الاحترام والتقدير – ولا بأس في ذلك، ولكن أن يظهر الأمر على الهواء فهذا يعتبر مشكلة في حد ذاته.
في القنوات الدينية، سواء الإسلامية أو المسيحية أو غيرها، تعتبر مثل هذه الأمور طبيعية ومنطقية، وليس من غير المعتاد أن تكون الرسالة أو الدعاية الدينية في صلب البث التلفزيوني سواء كانت برامج أو أخبار أو تغطيات مباشرة.
لكن في القنوات التي تقدم نفسها على أنها إخبارية وعامة وتسعى لإثبات أنها “حيادية” و”موضوعية”.. الخ، فإن الإشادة بالرموز والانتماءات الدينية يعتبر سقطة كبيرة. ليس لأنه يكشف الانتماء الأيديولوجي الحقيقي للقائمين على المحطة فحسب، ولكن لأنه يحولها إلى آلة للدعاية والتبشير وخدمة أجندة غير إعلامية، أجندة أيديولوجية وسياسية.
للأسف فإنه في معظم وسائل الإعلام العربية اليوم لا يكاد الإنسان يلمس الفرق بين الإعلام وبين التبشير الديني أو السياسي. وفي حين لا تخلو وسيلة إعلام في الدنيا من انحياز هنا أو هناك، فإن هذا الانحياز لا بد أن يظل ضمن حجمه وشكله المعقولين، ولا يتحول إلى حملات تبشير ودعاية ومواقف صارخة كتلك التي تقوم بها وسائل الإعلام العربية الرئيسية.
بالطبع الحجة الجاهزة لدى هؤلاء هي المبادئ والثوابت والانحياز إلى هموم وقضايا الأمة العربية والإسلامية.. الخ؟
ويخيل لك بأن هذه الحجة طبيعية ومنطقية، ولكنها في الواقع حجة مخادعة وسخيفة. فالالتزام بقضايا الأمة وثوابتها ليس من بين وظائف الإعلام، وإنما هو وظيفة للأحزاب والجماعات السياسية، وقد يمتد ذلك إلى مواقف الحكومات لا سيما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية. والذين يعملون في الإعلام يفترض أنهم يحتفظون لأنفسهم بمواقفهم السياسية والأيديولوجية ولا يسعون إلى إظهارها خلال ممارستهم لعملهم وبالطبع لا يجب أن يستغلوا وظيفتهم لنشرها.
إن هذا الخلط الذي أصبح مثل الوباء في السنوات الأخيرة، هو السبب في حالة الانجراف الشديد لوسائل الإعلام العربية وتحولها إلى امتداد لوزارات الخارجية في بلدانها أو البلدان التي تمولها، حتى أصبح واضحا نوعية الأجندة لكل وسيلة إعلامية والمواقف المتوقعة منها في كل قضية أو ملف وحتى نوعية الضيوف الذين تستعين بهم.
بل المضحك في الأمر أن الخط التحريري العام لوسائل الإعلام هذه بات يتغير بتغير السياسة الخارجية للدول. فحين تذهب لليمين يذهبون إلى اليمين وحين تجنح لليسار تجدهم كذلك. ويحدث هذا على المكشوف ومن دون حرج أو شعور بالخجل أو حاجة للتبرير. ولا يتوقف الأمر عند الأخبار وإنما يتعداه إلى البرامج والآراء والمواقف.
ويبدو أن الحكومات نفسها لم تعد تبالي أو تسعى إلى تمويه تدخلها الواضح والمباشر في وسائل الإعلام، بل وإظهار سيطرتها على السياسة التحريرية لهذه الوسائل، فالحديث لم يعد يدور حول الاستقلالية الإعلامية من عدمها أو وجود رقابة من عدمها – فهذه الأيام قد ولت إلى غير رجعة – وإنما تحول الأمر إلى اعتبار هذا الإعلام جزءا من معارك السياسة والتحالفات الداخلية والإقليمية. بحيث أن النزاعات والخلافات بين الدول أصبحت هي التي تحدد شكل ونوعية المادة الإعلامية التي تنشر أو تبث.
في مثل هذه الأجواء من الطبيعي أن يشيد مذيع الجزيرة بارتداء مراسلة لندن للحجاب، وربما تمنى آخرون أن ترتدي باقي الموظفات المسلمات في القناة الحجاب أيضا كي ينسجم الشكل مع المضمون، كما هو الحال مع قنوات أخرى!