بقلم/ عمران سلمان – 5 يونيو 2021/
يعيش على ظهر هذه الأرض قرابة 7 مليار إنسان. وهم يتوزعون بحسب الدول والقارات، كما يتوزعون بحسب الأديان والقوميات والأعراق. من الناحية الدينية هناك أقل قليلا من 4 مليار إنسان من المسيحيين والمسلمين، وحوالي مليار ونصف من الهندوس والبوذيين. وهناك أقليات دينية أخرى تعد بمئات الملايين مثل السيخ وأتباع الأديان الشعبية. وهناك أيضا أكثر من مليار إنسان ممن لا يدينون بأي من هذه الأديان، وبينهم من يكتفي باتباع بعض الروحانيات.
وفي الإجمال لم يثبت أن أتباع أي دين من هؤلاء (أو من عاشوا من غير دين) كانوا بسبب ذلك، أقل أو أكثر سعادة أو إنتاجا من بعضهم البعض. ولم يثبت أن الدين كان عاملا في تقدم أي من هؤلاء.
إن الدين ليس عاملا أساسيا في بناء الحضارة، هو عامل أساسي في بناء الذات المؤمنة به، لكنه خارج هذه الذات لا يستطيع أن يقدم الكثير. الدين كان على الدوام قضية مرتبطة بمن يعتقدون فيه. هناك من حاول أن يمد الدين إلى نطاق القضايا العامة، وهناك من حاول أن يجعله قضية محورية في حياة البشر. لكن هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح دائما، ولم يثبت أن لها أرضية صلبة. والسبب هو أن الدين ليس سوى نتاج العلاقة بين المؤمن وما يعتقد به.
يقدر المؤرخون (توينبي مثلا) أن عمر الحضارة البشرية يبلغ عشرة آلاف عام، وهي الفترة التي عرف خلالها الإنسان النار والزراعة. وإذ يبلغ عمر أقدم الأديان المعروفة اليوم (مثل الهندوسية) خمسة آلاف عام، فهذا يعني أن الإنسان عاش لمدة خمسة آلاف عام لم يكن يعرف فيها ديانة متكاملة. وخلال الخمسة آلاف عام اللاحقة، لم يكن جميع البشر يلتزمون بديانة محددة، وحتى اليوم فإنه يوجد مئات الملايين على أقل تقدير، ممن لا يعتبرون الدين أمرا حاسما أو جوهريا في حياتهم. وخلال العشرة آلاف عام الماضية لم يتضح ما إذا كان دين معين قد أضاف أمرا جوهريا لأتباعه.
لقد عرفنا عن الإغريق أنهم أمة انتجت الفلسفة والمنطق وبعض مبادئ الرياضيات والعلوم، ولم نعرف عنهم أنهم كانوا من أتباع أي دين، وقد تلتهم حضارات أخرى قدمت أيضا قسطها في هذه المجالات ولم يكن لها دين محدد.
وحتى الفترة الذهبية من الحضارة العربية الإسلامية، التي قدمت قسطها في مجال العلوم والطب الفلك، لم يكن الدين محركا لها، بقدر ما كان تلاقحها مع نتاجات الحضارات الأخرى في زمنها.
ومعظم، إن لم يكن جميع، الاكتشافات والاختراعات العلمية التي حفل بها القرنان التاسع عشر والعشرين، لم يكن للدين أي ضلع فيها. أما العلوم الاجتماعية والنظرية التي نشأت في الفترة نفسها، فقد جاءت بالضد من قيود الدين وعلى أنقاض هذه القيود.
وفي الإجمال فإن الدين، وإن لعب دورا على الصعيد الروحي للأفراد، فإنه لم يلعب دورا ذا أهمية كبيرة في قضية التقدم العلمي والإنساني للبشرية ككل. فلو توقف الأمر على الملتزمين بالأديان، لما تقدمت الإنسانية خطوة أخرى إلى الأمام.
والواقع أنني أحسب أن هذا كله معروف لدى الكثيرين. فالدين ليست من مهمته أو وظيفته أن يكون كتاب علوم أو قاموس طبي. الدين هو علاقة روحية بين الإنسان وما يعتقد به، قائمة على الإيمان والتسليم، وليس على الحجج والبراهين المنطقية أو العقلية.
هل يقدم الدين إجابات؟
المسألة الأخرى هي أن أتباع كل دين يعتقدون بأن لدي دينهم إجابات عن الأسئلة الكبرى في حياة البشر وهي تلك المتعلقة بالوجود وأصل الخلق والكون وما شابه. وهذا أمر صحيح. أي أن لدى كل دين بالفعل إجابة على هذه الأسئلة. ولكن هل هي إجابة مقنعة أو ملزمة لباقي الناس؟ هنا تكمن المعضلة. فكون أتباع كل دين يعتقدون بأنهم وجدوا إجابات على تساؤلاتهم، لا يعني أن أتباع الأديان الأخرى أو من لا دين لهم يوافقونهم الرأي.
إن تعدد الأديان في حد ذاته، يعني أن الإجابات التي يقدمها كل دين لا تخص سوى أتباعه. وعلى العكس من ذلك لو سألت أي شخص في اليابان أو أميركا أو أدغال أفريقيا، عن تفسير ظاهرتي الليل والنهار أو تغير المواسم، لسمعت إجابة واحدة وهي أن الأمر له علاقة بدوران الأرض حول الشمس ودورانها حول نفسها.
والواقع أن اعتقاد أتباع كل دين بكفاية واكتمال الإجابات التي يقدمها لهم دينهم، ليست متأتية من كون هذه الإجابات صحيحة أو مقنعة بالضرورة، بقدر ما أنها نتاج البرمجة التي يتعرض له الصغير من هؤلاء في بيئته وعلى أيدي أهله، الذين يلقنونه هذه الأجابات، ولا يسمحون له بمعرفة أي رواية سواها.
وهو إذ ينشأ على هذه الإجابات، ولا يعرف غيرها، يعتقد بأنها هي الإجابات النهائية والصحيحة والمطلقة. بل الأسوء هو اعتقاده بأنه قد توصل لها عبر تفكيره العقلي ونظره المنطقي. وهو لا يدري بأن الأمر لا علاقة له بالعقل أو المنطق، فلو أنه نشأ في بيئة أخرى، لتصرف على نحو مغاير، وبما يتناسب مع بيئته الجديدة.
والمشكلة مع أتباع الأديان، خاصة بعض المسلمين، أنهم يكثرون من الحوقلة والبسملة والأشعار وترديد الكلام الفارغ، اعتقادا منهم أن ذلك يقدم برهانا أو حجة للإقناع. وما عرفوا أن هذه اللغة تفيد مع المبرمَجين من أمثالهم، لكنها خارج هذا النطاق لا تعدوا أن تكون مادة للسخرية والتهكم!
الحقائق المطلقة
والمشكلة الأخرى التي تتبع ذلك هي أنه بما أن الإجابات التي يحصل عليها أتباع كل دين، هي قابلة فقط للتطبيق في نطاق هذا الدين، فهل يحق لهم المطالبة بفرضها على غيرهم من البشر؟
من البديهي أن الإجابة هنا هي كلا. لكن المؤسف أن الحال لم يكن كذلك عبر التاريخ، بما فيه تاريخنا المعاصر. التاريخ يقول لنا إن أتباع الأديان، معظمها على الأقل، حاولوا دائما أن يفرضوا قناعاتهم وإجاباتهم على الآخرين. وكان من نتيجة ذلك الحروب المدمرة والمجازر وأشكال التعذيب من صلب وسمل وتقطيع للأوصال وخلافه.
خلاصة الكلام، هي أن المشكلة عبر التاريخ لم تكن في الدين نفسه، فمن حق كل إنسان أو كل جماعة بشرية إذا أرادت، أن تتخذ لها دينا ما، المشكلة تبدأ حين يحاول أتباع دين معين أن يفرضوا هذا الدين على غيرهم، وحين يعتبروا أنهم وحدهم من يملكون الحقيقة المطلقة، وما عداهم مجرد كفار أو زنادقة ينبغي إخضاعهم وإرهابهم أو نفيهم من الأرض! حين ذلك يصبح قتل الإنسان والتضحية به على مذبح هذه المعتقدات أمرا أيسر من شرب الماء وأتفه من مهر يدفعه أخانا المنتحر لحورية تنتظره في مكان ما مفترض من هذا الكون اللامتناهي.
هذا ما عارضته دائما وأعارضه وسأظل أعارضه. لأنني أعتقد بأن الإنسان هو أكرم وأعظم قيمة حتى من الأديان نفسها.