عمران سلمان – الحرة – 14 مايو 2021/
في عام 1986 قدم آخر رئيس للاتحاد السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف مشروعا طموحا لإصلاح الاتحاد الذي كان قد بلغ وضعا حرجا على جميع المستويات. عرف هذا المشروع بسياسة الغلاسنوست (العلنية أو الشفافية) والبيريسترويكا (إعادة البناء).
لم تمنع هذه السياسة في النهاية من انهيار الاتحاد السوفييتي، بل اعتبر البعض أنها سرعت في سقوطه. لكن المغزى هو أن الأفكار التي جاء بها غورباتشوف شكلت ضربة قاضية للأيديولوجية الشيوعية، التي هيمنت على العالم لأكثر من سبعين عاما، وبنتيجة ذلك عادت تياراتها وأحزابها إلى الهامش بعد أن كانت في صدارة المشهد الدولي. وفي حين خرجت روسيا الاتحادية والدول الأخرى التي كانت تشكل جمهوريات الاتحاد السوفيتي من جديد إلى المسرح الدولي، لم تتمكن الأيديولوجية الشيوعية أبدا من التعافي. في عام 2021 طرح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في المقابلة التي بثتها قناة العربية (27 أبريل) مشروعه لإصلاح الحالة الدينية للمملكة، والذي يمكن تسميته ببريسترويكا إسلامية، تدعو لأول مرة للقطيعة مع المدرسة السلفية الوهابية والتخلي عن ترسانة هائلة من الأحاديث النبوية التي استند عليها الفقهاء لقرون طويلة والتي شكلت مع الوقت التدين الشائع اليوم.
أهمية هذه الدعوة لا تأتي من مضمونها، فقد دعا إلى ذلك الكثير من التنويرين من قبل، ولكن لكونها تأتي من السلطة السياسية في السعودية، وهي التي جعلت من مذهب محمد بن عبد الوهاب القائم على سلفية بن تيمية وتلاميذه عقيدتها الرئيسية وعملت على نشرها في بقاع الأرض، سواء عبر الدعم المالي أو السياسي. بن سلمان تحدث أيضا بصراحة ووضوح لا لبس فيهما بأن السعودية لا يمكنها أن تتقدم وتحقق النمو الاقتصادي وتنعش السياحة وتجلب الاستثمارات وتخلق الأعمال والوظائف، بوجود فكر متطرف، وأنه لابد من القطيعة التامة مع التيارات السلفية واستئصال أفكار الإسلام السياسي، إن هي أرادت التنمية والنهضة الحضارية. هذه التصريحات الواردة في المقابلة تشكل ثورة كبيرة لمن يدرك أهميتها، لأنها تعني تخلي السعودية رسميا عن دعم الاتجاهات السلفية والدينية المتزمتة في العالم، الأمر
الذي سوف يترك آثارا مدمرة على هذه المدرسة، عاجلا أو آجلا، وهو ما يعادل في أهميته انهيار الشيوعية.
أصداء المقابلة وجدت صداها في عدد من المؤسسات الدينية في العالم العربي، لعل أبرزها مؤسسة الأزهر التي راح شيخها الدكتور أحمد الطيب يدافع عن نفسه ومؤسسته في مجال التجديد الديني، بعد أن كان في السابق يهاجم الداعين له. فقد صرح شيخ الأزهر في 3 مايو، أن فتاوى تيارات التطرف حول الجهاد والقتل مدلسة، وأنها شاركت في تشويه صورة الإسلام وشريعته. كما دعا قبل ذلك بيوم (2 مايو 2021) كبار العلماء للاجتهاد الجماعي في 25 قضية جديدة ومعاصرة، تشمل القضايا ال ُمتع ِلِّقة بالإرها ِب والتكفي ِر والهجرة، وتحديد مفهوم دار الإسلام، والالتحاق بجماعات العنف المسلح، والخروج على المجتمع وكراهيته، ومفاصلته شعور ًيا، واستباحة دم المواطنين بالقتل أو التفجير.
تصريحات ولي العهد السعودي لا تزال بالطبع في مجال الرؤية والمشروع ولا أشك شخصيا أنه سوف يطبقها على أرض الواقع مع الوقت إذا ما أتيح له المجال، لكن المهم هو أنها تأتي في سياق عام في المنطقة يتسم بتراجع واضح في دور وتأثير ونفوذ الجماعات الممثلة للإسلام السياسي وعلى رأسها الإخوان المسلمين. وهذا يعني أننا نعيش اليوم نهاية المد الإسلامي الأصولي الذي تولد بنتيجة الثورة الإيرانية وحرب أفغانستان في نهاية السبعينات، والذي شكل على مدى العقود التي أعقبت ذلك، ردة حضارية كاملة في منطقة الشرق الأوسط.
سوف تظل آلة الدعاية الإيرانية الشيعية السياسية فاعلة لبعض الوقت، وكذلك ذيول الإخوان المسلمين وممثلتهم قطر وقناة الجزيرة يستميتون لعكس موجة الأحداث، لكن ما يبدو واضحا أن المنطقة العربية تشهد اليوم صحوة على واقع مرير لا تحسد عليه. فالخيارات أمام دولها واضحة تماما. لا يمكن تحقيق التقدم والنمو الاقتصادي مع سيادة التخلف الاجتماعي والتطرف الديني، ولا يمكن لها أن تعول على السياحة أو الاستثمار أو أي شكل من الدعم الاقتصادي لإصلاح أوضاعها، في الوقت الذي يهيمن فيه التراث الديني والعقلية الناجمة عنه على المجتمع. يمكنها أن تدير الأوضاع الحالية ويمكن للحكومات أن تستمر في السلطة، لكنها سوف تواجه بعد قليل المزيد من العجز الاقتصادي والمزيد من المشكلات السياسية والاجتماعية وسوف يحوم حولها شبح الدولة الفاشلة.
هذا الواقع أدركته الحكومة السعودية ونأمل أن تدركه باقي الحكومات العربية، وبحيث لا تكتفي بإصلاحات جزئية، وإنما تصارح شعوبها بأن الوقت قد حان لإصلاح حقيقي ينطلق من تحرير الدولة من الدين أو الدين من الدولة، وبحيث تنفتح هذه الدول على العالم بصورة تجعلها جزءا لا يتجزأ من العصر الحديث، في قوانينها، وسياساتها، ومنطقها، وتعاملاتها. ولعل البداية الصحيحة تأتي من إصلاح منظومة التعليم، وخاصة الحكومي منه، والتي عاث ولا يزال يعيث فيها فسادا ممثلو الإسلام السياسي. هذه المنظومة تلعب اليوم دور المفرخ للعقليات والنفسيات المبرمجة على لغة الإسلام السياسي والتيارات الدينية عموما. لذلك فإن أي إصلاح
مجتمعي لا يجد ترجمته في التعليم سيبقى مجرد شعار خالي من المحتوى.