لماذا التنوير؟

عمران سلمان – الحرة – 12 فبراير 2021/

مؤخرا كانت لي فرصة الحديث مع الدكتور مصطفى رشيد، وهو عالم أزهري يعيش في أستراليا وهو أيضا تنويري كبير، أسس مع مجموعة من المتنورين العرب “منظمة التنوير العربية” في أغسطس الماضي وجرى تسجيلها في الأمم المتحدة. مناسبة الحديث كانت رغبتي في التعاون مع المنظمة للمساعدة في نشر ثقافة التنوير. وشخصيا أدعو الجميع إلى الانضمام إلى هذه المنظمة عبر موقعها على الفيسبوك.

الواقع أن مسألة التنوير أو الدعوة للتنوير (وهو مشتق من النور والمقصود الاستنارة العقلية وعكسها الظلامية) ليست جديدة في المنطقة. فقد كان هناك على الدوام مفكرون وكتاب ومسؤولون وغيرهم، ممن دعوا إلى إشاعة التنوير وعملوا من أجله، من بينهم خير الدين التونسي (1820 – 1890) الذي اهتم بدراسة عوامل التطور في أوروبا وأسباب التخلف في الدول الإسلامية. وركز على قطاعي التعليم والزراعة في تونس كما نادى بالتجديد الفقهي عبر الاجتهاد وألحّ على توفير الحريّة في المجتمع.

وخلال المائة وخمسين عاما الماضية ظهر العديد من دعاة التنوير في مصر والشام وغيرها من البلاد الناطقة بالعربية، على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم الفكرية، من رفاعة رافع الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وفرح أنطون وشبلي شميل وسلامة موسى وطه حسين وفرج فودة وغيرهم.

ومع ذلك لم يسعف ذلك منطقتنا المنكوبة وظلت بعيدة عن التنوير، بل أنها تقهقرت إلى الوراء في نواح عديدة. صحيح أن المجتمعات العربية أخذت بمظاهر الحضارة الحديثة، في البناء والعمران وظاهر القوانين والمؤسسات، لكن ظلت الأفكار والمعتقدات القديمة هي نفسها تعيش جنبا إلى جنب مع المظاهر العصرية المختلفة (مع استثناءات قليلة هنا وهناك). ولا يزال للمؤسسة الدينية ورجل الدين حضورهم الطاغي في المجتمع، ولا تزال المفاهيم الأساسية في تعريف الفرد والمواطن والدولة والعلاقة بين هؤلاء تنتمي إلى ما قبل العصر الحديث، كما أن الحريات الأساسية للإنسان لا تزال تخضع للتفسيرات المختلفة القائم جلها على النص الديني والعرف الاجتماعي، ولم يطرأ أي تقدم جوهري فما يتعلق بقضايا المرأة والطفل والتعامل مع الأقليات الدينية والعرقية.

للوصول إلى هذا التنوير ونشره في المجتمعات العربية، ثمة طريق طويل

ومن المفارقات المحزنة أن بلدا مثل مصر التي عرفت حركات وشخصيات بارزة في مجال حرية المرأة والدفاع عن قضاياها على مدار قرن كامل، أصبح التحرش بالنساء ثقافة مجتمعية واسعة في القرن الحادي والعشرين. بل أصبح فيها شعر المرأة وجسدها ليس مجرد “عورة” فحسب، وإنما أيضا تهمة تستباح المرأة بسببها من المجتمع ومن السلطة على السواء!

والواقع أن الحديث عن التنوير اليوم (ولا حاجة إلى العودة للتعريف المدرسي المرتبط بعصر التنوير الأوروبي، فالأدبيات حول ذلك متوفرة بكثرة) لا بد أن يأتي على جملة أمور.

فإضافة إلى الإعلاء من مكانة العقل ودوره في تحرير الإنسان من كل ما يقف في طريقه نحو التقدم المادي والنفسي والأخلاقي، وإضافة إلى دور العلم في صياغة الطريقة التي نفكر بها، لا بد أن يشمل الحديث أيضا الحرية الفكرية والحق في الاختيار والفردية، وإبعاد الاعتقاد الديني عن المجال العام واعتباره حرية شخصية، كما لا بد أن يشمل تبني وتطبيق وتدريس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقية الدولية لمنع التمييز ضد المرأة، والاتفاقية الدولية لحماية الأقليات والاتفاقية الدولية لحماية حقوق الطفل وغيرها من الاتفاقيات التي تنظم حقوق الإنسان في هذا العصر.

باختصار فإن التنوير يعني هنا، كما يقول العفيف الأخضر “الارتباط العضوي بالحضارة الحديثة، أي بمؤسساتها الديمقراطية وقيمها الإنسانية وعلومها”.

لكن للوصول إلى هذا التنوير ونشره في المجتمعات العربية، ثمة طريق طويل. فالعقبات لا تتوقف عند المؤسسة الدينية والممانعة الشرسة التي تبديها جماعات الإسلام السياسي فحسب، بل تمتد أيضا إلى السلطات السياسية التي تبدو في أفضل الأحوال غير معنية أو متحمسة للتنوير، وفي أسوئها مناوئة له ومعرقلة لجهود نشره.

فحتى الآن ثبت أن الحكومات قادرة على دفع المجتمعات نحو التقدم إذا أخذت زمام المبادرة.

حدث ذلك في تونس خلال عهد الرئيس الحبيب بورقيبة، ويحدث اليوم في السعودية حيث اتخذ ولي العهد محمد بن سلمان جملة من الإصلاحات الكبيرة والشجاعة التي لم يكن من الممكن التفكير فيها قبل سنوات قليلة فقط.

والتنوير لا بد أن يكون جزءا من أية عملية إصلاح تقوم به أية دولة عربية، فهو ليس شعارا حزبيا أو أيديولوجية تخص جماعة معينة من البشر. هو ببساطة الانتماء إلى روح العصر وهو مقدمة لا بد منها للنهوض بهذه المجتمعات نحو التحضر والتمدن.

واختم بحديث لفرح أنطون يقول فيه: “لا مدنية حقيقية، ولا عدل، ولا مساواة، ولا أمن، ولا ألفة، ولا حرية، ولا علم، ولا فلسفة، ولا تقدم في الداخل إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية”.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *