عمران سلمان – الحرة – 20 نوفمبر 2020/
أوروبا في ورطة حقيقية ووضع لا تحسد عليه. فهي من جهة تواجه هجمات إرهابية باسم الإسلام، متنوعة في أهدافها وعناوينها، وهي من جهة أخرى غير قادرة على مواجهة هذا الخطر بصورة فعالة، إما بسبب القيود القانونية أو السياسات المحلية أو الحدود المفتوحة بين دول الاتحاد الأوروبي. وهي لذلك تفتش باستماته عن طرق أفضل لمواجهة هذه الظاهرة.
مشكلة التعميم
في البداية ينبغي أن نقول إن الجماعات المتطرفة، بما في ذلك المساجد والمؤسسات التي تديرها، تشكل جزءا صغيرا نسبيا من المجتمعات المسلمة في الدول الأوروبية. صحيح أن صوتها هو الأعلى وتأثيرها ربما أقوى، لكن هذا لا يعكس بالضرورة حجمها الحقيقي. الكثير من المسلمين هناك ليسوا منخرطين في مثل هذه النشاطات، وهم إما مسلمون تقليديون، يحافظون على عباداتهم وأعمالهم اليومية ويهتمون بتربية أسرهم ولا يشتغلون بالسياسية عادة، وإما مسلمون مندمجون تماما في هذه المجتمعات، وبين هؤلاء علمانيون ولا دينيون ممن ينتمون إلى الإسلام ثقافيا فحسب.
أيضا المجتمعات المسلمة ليست جسما واحدا، فهي تتنوع مذهبيا وعرقيا وثقافيا. وتختلف نسبة هؤلاء بين بلد أوروبي وآخر. والحديث عن المسلمين في أوروبا بوصفهم كتلة واحدة فيه من التعميم والظلم الشيء الكثير وهو لا يصلح منطلقا لمعالجة مشكلة الإرهاب.
لمقاربة هذه المشكلة من المهم الانتباه إلى مسألتين أساسيتين:
الجزء المعطوب
المسألة الأولى هي أنه لا ينبغي وضع المجتمعات المسلمة كلها تحت المجهر، وإنما تحديد وعزل الجزء المتطرف من بينهم. هذا الجزء يشمل النشطاء والمتحزبين أو المؤدلجين إسلاميا، وبين هؤلاء من ينتمي أو يتعاطف مع تنظيمات مسلحة أو تنظيمات أيديولوجية مثل الإخوان المسلمين.
هؤلاء قد يكون بينهم من هو مولود في هذه الدول وتم تجنيده حديثا، وقد يكون لاجئا جاء لتوه من وراء البحار لتنفيذ عملية إرهابية، وقد يكون مقيما منذ فترة طويلة ونجح فيما كلف به من تشكيل خلايا وإقامة مؤسسات وما شابه.
هذا الجزء المتطرف هو عادة الذي تشتغل عليه أجهزة الاستخبارات التابعة لبعض الدول العربية أو الإسلامية. حيث تتدفق عليه المساعدات من الجمعيات الخيرية والمؤسسات الدعوية وما شابه (وهي معروفة)، وهذا هو الجزء الذي تهتم به أيضا أجهزة الإعلام في هذه الدول (وهي معروفة أيضا) ومنحه منصة بهدف تقوية مركزه في المجتمع المسلم المحلي.
هؤلاء هم الذين يشكلون خطرا على المجتمعات الأوروبية، بما في ذلك غالبية المسلمين في هذه الدول. ولو تمكنت الحكومات الأوروبية من عزل هؤلاء والتخلص منهم، تكون قد حلت نصف مشكلة الإرهاب.
التدين والانتماء
المسألة الثانية هي أن مشكلة الإرهاب في أوروبا ليست مشكلة دينية، وإن اتخذت هذا الطابع. هي مشكلة تتعلق بالانتماء أو الهوية. وهذا يحتاج إلى شرح.
ثمة فرق بين اتباع دين معين وبين اتخاذ هذا الدين هوية أو انتماء. الإيمان بدين هو في الغالب خيار فردي، قد يرثه الإنسان وقد يلجأ له بدوافع إيمانية وروحانية أو نتيجة تجارب بشرية معينة.
بينما الهوية تستلزم (في كثير من الأحيان) الانتماء إلى جماعة من البشر والانتظام في سلسلة من العلاقات “التنظيمية” ووضع أهداف معينة وجدول أعمال وتنفيذ مهام وما إلى ذلك.
فأن يكون الإنسان مسلما أو مسيحيا أو يهوديا أو بوذيا أو هندوسيا.. إلخ، هو أمر طبيعي لا ينبغي أن يثير أية مشكلة، لكن الانضمام إلى مؤسسة إسلامية أو مسيحية أو يهودية.. إلخ، يعني في الغالب الانتماء إلى جماعة معينة والعمل وفق أهدافها.
الأمر هنا يشبه الفرق بين الإيمان بـ”مذهب” معين وبين الانتماء إلى “طائفة” تؤمن بهذا المذهب. المذهب هو اعتقاد بينما الطائفة هي وجود اجتماعي.
والإنسان في العادة لا يلجأ إلى استخدام العنف في الدفاع عن مذهبه، لأنه محفوظ في قلبه، لكنه يميل تلقائيا إلى العنف إذا تعلق الأمر بطائفته أو ما يعتبره مساسا بها. وبالأحرى فإن الطائفة هي التي تمارس العنف وليس المذهب نفسه.
أوروبا وأميركا
هذا الفرق جوهري، عندما يتعلق الأمر بمكافحة الإرهاب والتشدد. فالخطأ الفادح هو مهاجمة الدين أو الاعتقادات. فإضافة إلى كون ذلك اعتداء على حرية أساسية للإنسان، فإنه يحيل المعركة أيضا إلى الوجهة الخطأ.
الصحيح هو كيفية الحيلولة دون أن يتحول الإيمان الديني إلى هوية دينية. وكيف يمكن ضمان أن يتمتع الإنسان بممارسة حريته في الاعتقاد وأداء شعائره وطقوسه من دون الحاجة إلى الانتماء إلى مؤسسة دينية. وأعتقد أن هذا هو من الأسباب الجوهرية للاختلاف الذي يميز وضع المسلمين في بلد مثل أميركا مع المسلمين في أوروبا.
فجماعات الإسلام السياسي في أميركا تحاول هي الأخرى باستماته أن تجر المسلمين إلى حلبتها عبر منحهم “هوية” أو “انتماء”. ورغم نجاحها أحيانا في جر بعض الفئات، إلا أن غالبية المسلمين لا يجدون حاجة إلى الانتماء إلى هذه الجماعات. (باستثناء المسلمين السود ومنظماتهم، فهؤلاء قضيتهم مختلفة).
والسبب أن “الانتماءات” بطبيعتها ضعيفة في أميركا، لعدم وجود قومية، فضلا عن النفور التقليدي من الأيديولوجيات، فما يجمع الناس حقا هو القيم والمبادئ الأميركية.
ونجد ذلك واضحا في ميدان السياسة، إذ لا يتمكن أي حزب أيديولوجي من النجاح مهما بذل من جهد، والحزبان الرئيسيان (الديمقراطي والجمهوري) هما عبارة عن مظلتين فضفاضتين، تجمعان أشخاصا ومصالحا واتجاهات متباينة.
بمعنى آخر فإن “الانتماء” في أميركا ليس مسألة جوهرية، كما أن سؤال “الهوية” نفسه غير مطروح، لانتفاء وجود “آخر” مقابل (ربما باستثناء مسألة السود التي لها وضعها الخاص).
بالطبع سيكون من الظلم إجراء مقارنة بين الدول الأوروبية وأميركا في هذا المجال، لكني أعتقد أن هناك الكثير مما يمكن أن يتعلمه الأوروبيون من التجربة الأميركية.
مقال رائع شكرا